منوعات

“رمضان جانا”.. قصة الأغنية التي طمأنت قلوب الخائفين وسط الوباء

شعور عارم بالوحشة تملك قلبي بينما
كنت أتجهز للنزول من أجل قضاء بعض الطلبات للبيت، لم يعد الأمر سهلاً، وسط مخاوف
العدوى، لا أكف عن نثر الكحول والمياه المخلوطة بالكلور، وضعت الزجاجتين في
حقيبتي، أحكمت الكمامة على وجهي ورحت أرتدي القفازات بينما يهدر التلفاز في الخارج
بأخبار الوباء التي لا تتوقف أبداً.

في الطريق إلى محل البقالة الكبير،
مررت بالمسجد الذي أعتدت أن آراه مزيناً لاستقبال رمضان، كان صامتاً، تماماً كما
سيكون خلال الشهر الكريم، بلا صلوات، لن تصدر عنه أصوات التراويح أيضاً، انقبض
قلبي فنظرت لأعلى حيث كان من المفترض أن ترفرف الزينة التي يعدها الصغار من أجل
الشهر الكريم، واصلة بين البيوت، حيث يبدأون في إعدادها قبيل قدومه بـ15 يوماً على
الأقل، لكن يبدو أن أحداً لم يعد يمتلك الرغبة أو الحماس، لم يكن هناك شيء.

وصلت إلى وجهتي، شاردة، وما إن دلفت
إلى المحل حتى تناهى إلى سمعي موسيقى “رمضان جانا” الشهيرة، بينما راح
العمال يجتهدون لترتيب معروضات رمضان من ياميش ومكسرات وتمور، انفصلت عن المشهد
بالكامل، إلا من صوت الأغنية التي سمعتها لأول مرة منذ انقضاء الشهر الكريم، في
العام الماضي، شعرت لوهلة أنني كنت في سفر طويل وعدت أخيراً، نزلت موسيقى
“رمضان جانا” على قلبي كما تنزل المياه فوق النيران، شعرت براحة وألفة
ورغبة في البكاء.. الحقيقة أنني شعرت أخيراً بقليل من الأمان وتذكرت -كأنني نسيت-
أن رمضان على الأبواب وأن هذا في حد ذاته -رغم كل شيء- يدعو إلى الاطمئنان والاستبشار،
هكذا بدأت أسمعها أكثر وأكثر مع اقتراب الشهر الكريم، من التلفاز والراديو إلى
المقاهي ومحال البقالة والملابس والمكتبات، حتى الهواتف المحمولة صارت نغمات
أكثرها، وكذلك “الكول تون” بها “رمضان جانا”. الأغنية التي
كانت من بديهيات الشهر الكريم، صارت كالقشة التي أتمسك بها كي أشعر أن كل شيء قد
يكون على ما يرام.

شيء ما في صوت “أبو نور”
يتكفل ببث الطمأنينة في القلب، فمن بين كل الأغنيات التي انطلقت للترحيب بالشهر
الكريم، “مرحب شهر الصوم” لعبدالعزيز محمود، “أهو جه يا ولاد”
للثلاثي المرح، “وحوي يا وحوي” لأحمد عبدالقادر، “هاتو
الفوانيس” يا ولاد لمحمد فوزي، ظلت أغنية عبدالمطلب هي الأقرب إلى القلب
والروح، أو باللغة الحديثة “نمبر وان”.

على موقع الموسيقى الأشهر ساوند كلاود، حظيت الأغنية التي جرى تحميلها
بواسطة أفراد، وليس مؤسسات، بمرات استماع تخطت المليونين ونصف لكل نسخة من تلك
الموجودة بالموقع، فيما بلغت مرات المشاهدة لنسخة واحدة فقط من كليب الأغنية على
موقع “يوتيوب” -بين العديد من النسخ- قرابة الخمسة ملايين مشاهدة

ربما يعود ذلك إلى تلك التوليفة التي
تحملها الأغنية، من السلطنة في صوت طِلب، إلى تلك الموسيقى التي لم تقع في فخ
الكآبة كأكثر أغنيات المناسبات الدينية، كما لم تغرق في البهجة كما هو الحال في
العديد من الأغنيات السابقة عليها، أغنية وقورة، هادئة، ومبهجة في الوقت ذاته،
ليست للأطفال كأغنية الثلاثي المرح وأغنية محمد فوزي، حققت معادلة تشبه المستحيل
ربما تفسر قصة غنائها الأمر أكثر.

كان الشاعر حسين طنطاوي  مؤلف “رمضان جانا”،
يكتب للإذاعة المصرية، الكثير من البرامج الإذاعية الغنائية مثل
“السمسمية” مع المونولوجيست سيد الملاح خلال شهر رمضان لأكثر من 29
عاماً، كذلك قدم العديد من الأشعار الفكاهية خاصة الشعر الحلمنتيشي الذي كان يقدمه
بالتعاون مع الفنان محمد شوقي على إذاعة الشرق الأوسط، والذي كان يفتتح كل حلقة
ببيتين ثابتين يقولان

  اضحك فهذا الشعر حلمنتيشي

       هو سكر والله سنترافيشي

       اضحك فإن الضحك كالياميش

       في طعمه والكحك والقراقيش

وعلى الرغم من شهرة الفنان محمد
شوقي، كممثل إلا أن كثيرين لا يعرفون عنه أنه بدأ حياته كمطرب في فرقة منيرة المهدية، وهو ما دفع
صديقه حسين طنطاوي لإسناد غناء “رمضان جانا إليه” بتلحين  سيد
مصطفى، إلا أن الأغنية لم تحقق النجاح الذي توقعه وانتظره مؤلفها، كما أن المغني
محمد شوقي نفسه لم يلبث أن تحول إلى التمثيل بعدما اقتنع بعدم توفيقه في الغناء.

 هكذا عهد بها حسين طنطاوي إلى
الملحن الموهوب محمود الشريف، الذي أعطى الأغنية أخيراً لحنها الذي نعرفه حتى
اليوم، لكن بقيت الأزمة في المطرب الذي سيقع عليه الاختيار، في البداية، توجهت
الأنظار للاختيار الأكثر أماناً وهو الفنان أحمد عبد القادر نظراً للنجاح الساحق
الذي حققته أغنيته السابقة وحوي يا وحوي، “كانت مكسرة الدنيا” بحسب
تعبيره، حيث بدت كافية بالنسبة إليه بحيث اعتذر ليسند محمود الشرف الأغنية لصديقه
المقرب محمد عبدالمطلب والذي قبلها فوراً، نظراً للتفاهم الكبير بينهما خرجت
الأغنية بشكل غير متوقع.

ربما لم يكن عبدالمطلب ليقبل غناء
“رمضان جانا” لولا الظروف التي أحاطت بها، حيث كان توقيت الحرب العالمية
الثانية سبباً في حالة عامة من الكساد عبر عنها عبدالمطلب بقوله “ناس كتير
اغتنت وقت الحرب العالمية الثانية لكن أنا ماغتنتش، بالعكس، مكنتش بشتغل، لأن
نفسية الإنسان ماتساعدهوش على العمل في وقت زي دا” مع ذلك اضطرته حاجته إلى
المال إلى القبول بحسب مقابلة مع ابنه الأكبر ومدير أعماله نور محمد عبدالمطلب، يحكي القصة “مع الحرب العالمية ساد الكساد
وأغلقت معظم الكازينوهات ولم يعد هناك مجال رزق للفنانين سوى الإذاعة المصرية يأتي
إليها الفنانون ليختاروا كلمات المؤلفين، وبقيت أغنية رمضان جانا الوحيدة التى لم
يخترها أي فنان، فأعجبت طلب واختارها وسجلها في نفس اليوم لاحتياجه لمبلغ الستة
جنيهات قيمة أجره عن غنائها وكان مؤلفها حسين طنطاوي والملحن محمود الشريف وتم
تسجيلها أوائل الأربعينيات”.

 الأغنية التي تكلفت 20 جنيهاً،
حصل محمد عبدالمطلب على 6 جنيهات منها، بينما كان نصيب الملحن خمسة جنيهات والبقية
للفرقة الموسيقية، لتذاع فعلاً وللمرة الأولى في ثاني أيام شهر رمضان الكريم، يوم
2 سبتمبر/أيلول عام 1943، وتتحول من بعدها إلى النشيد الرسمي للشهر الكريم، ما إن
تثبت الرؤية حتى تنطلق الأغنية في كل مكان.

عقب أقل من 20 عاماً، تحديداً عام 1960 حين بدأ التلفزيون المصري إرساله، كان من أبرز برامجه وقتها البيانو الأبيض من تقديم الشاعر حسين السيد، حيث وقع الاختيار على محمد عبدالمطلب لتقديم أغنيته عبر البرنامج مرة أخرى بحلة جديدة.

لا تزال ابنته سامية تذكر تلك المرة التي رأته فيها يمسك بالورقة ويحفظ كلمات رمضان جانا من جديد في المنزل، قبل أن يرتدي الزي الشعبي، اللاسة والجلباب ويذهب إلى التلفزيون من أجل تسجيل الأغنية في التلفزيون المصري حيث ظهر عبدالمطلب بنفسه في التسجيل الأصلي للأغنية

النسخة الأصلية من الأغنية

ظلت تلك النسخة تذاع في بدايات
التلفزيون المصري، بالأبيض والأسود حتى تمت إعادة تصويرها عقب وفاة طلب بعام واحد،
عام 1981 على يد المخرج يسري غرابة، حيث تم عمل سيناريو للأغنية وتصويرها قبيل
ليلة الرؤية وكل طقوس الليلة، ليختفي الكليب القديم.

مثلث من ثلاثة أضلاع ربط بين كل من
محمد عبدالمطلب، وشهر رمضان الكريم وحي الحسين العريق، تروي ابنته سامية “كان
لازم يروح يصلي العصر والفجر في الحسين خلال شهر رمضان الكريم، كان مرتبط بالحي دا
جداً” المعلومة ذاتها أكدها ابنه الأكبر نور حيث راح يحكي في لقائه عن والده
“كان حي الحسين من الأماكن المفضلة لوالدي وكان يجلس فيه دائماً مع عم محمد
الكحلاوي أقرب أصدقائه، وكان أهل الحي يحبون طلب بشدة، وقال لي والدي: يا نور شوف
مكان في الحسين أعمل فيه أمسيات رمضانية لأهل الحي، وبالفعل شوفت مكان اسمه الكلوب
العصري، وأقمنا أمسيات شارك فيها سيد مكاوي والعزبي وشكوكو، وكان دائماً يطلب
الجمهور من والدي غناء أغنية رمضان جانا، وبعدها أصبحت هذه الأمسيات عادة رمضانية
استمرت بعد وفاته”.

“رغم كل شيء.. موسيقى رمضان
جانا تدخل على النفس بهجة وتفتح مسامات للأمل في حائط العزل الذي التف حولنا من كل
اتجاه” عبر صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، نشر الكاتب الصحفي محمد
عبدالرحمن
،
مشاعره حول الأغنية، حيث لم أكن وحدي التي شعرت بنسمات الأمل معها.

عماد محمد، أحد مستخدمي فيسبوك نشر
بدوره “الواحد سمع أغنية رمضان جانا على إم بي سي مصر، موده اتعدل والله،
ربنا يهله علينا بالخير ويزيل البلاء والوباء”.

رمضان جانا كانت أيضاً عنواناً
لهاشتاغ انطلق عبر موقع التواصل الاجتماعي تويتر، زخر بمجموعة من التغريدات
المعبرة عن حالة من الحنين الجمعي لأيام ولت، تكفلت أغنية محمد عبدالمطلب بإعادتهم
إلى أجوائها.

لم تتكفل الأغنية الأشهر برد
الملايين إلى مساحة حميمة جمعتهم على صوت أحبوه منذ أربعينيات القرن الماضي،
ولكنها تكفلت أيضاً بتكريم الابن الأكبر نور، والذي كان قد تعرض خلال الفترة
السابقة إلى أزمة بعد طرده من مسكنه في دولة المغرب، حيث وجد
نفسه فجأة في الشارع، مع ضائقة مالية كادت تودي به، إلا أن القصة انتهت بشكل سعيد
عقب تدخل إدارة قناة إم بي سي 5 والتي قررت أن تكرم عبدالمطلب في شخص ابنه، عبر منحه
شقة، قام باستلامها على أنغام أغنية

والده “رمضان جانا”. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى