تقارير وملفات إضافية

كيف أنهى بوتين عزلة روسيا عبر تدخله بالشرق الأوسط.. مكاسب كبرى عوضت الاقتصاد الضعيف

هناك صانع عروشٍ جديد في الشرق الأوسط، إذ إن روسيا أصبحت لاعباً رئيسياً في المنطقة.

فقد كانت روسيا غائبةً بالكامل تقريباً عن المنطقة، طوال ربع قرنٍ منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.

واليوم، صارت طرفاً كبيراً في المعادلة، مع بصمةٍ عسكرية مرعبة وعلاقات جيدة مع كافة الأطراف الرئيسية المتعارضة الكبرى، بدءاً من إسرائيل ووصولاً إلى السعودية مروراً بسوريا وتركيا، حسبما ورد في تقرير  لمجلة Politico الأمريكية.

ويبدو أن الأمور تسير على هوى بوتين دون شك. إذ احتفى الزعيم الروسي بعيد الميلاد الأرثوذكسي في السابع من يناير/كانون الثاني، حين زار دمشق للمرة الأولى منذ بدأت قواته الجوية في قصف أهداف المعارضة عام 2015، من أجل تقييم نجاح روسيا في تغيير مجريات النزاع.

ومن المرجّح أنه استمتع بزيارته. إذ يجري الآن قصف المعارضة بالغارات الجوية داخل آخر معاقلها في إدلب (رغم حظر إطلاق النار مؤخراً)، وانكمش تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في صورة بقايا صغيرة من خلافته المزعومة، وتراجعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأكراد إلى أقصى شمال شرق سوريا تاركين للقوات الروسية السيطرة على قواعدهم الخالية.

ثم سافر بوتين إلى تركيا، حيث أعلن مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاتفاق على وقف إطلاق النار بين الجماعتين المتحاربتين الرئيسيتين في ليبيا، قبل أن يطير زعماء الجماعتين إلى موسكو من أجل التفاوض بهدف تعزيز الهدنة.

وربما غادر قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر -الذي تقدّمت قواته صوب طرابلس منذ أبريل/نيسان بمساعدة المرتزقة الروس- دون توقيع الاتفاقية، لكن المفاوضات أظهرت أن الكرملين سيُؤدي دوراً قيادياً في أي محاولات للتوسّط في الصراع. 

ولا شكّ أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل زارت موسكو قبل أيام لكسب دعم بوتين من أجل عقد مؤتمرٍ حول الأزمة الليبية في برلين يوم الأحد، الـ19 من يناير/كانون الثاني.

ويبدو انتشار الزعيم الروسي في كل مكانٍ داخل الشرق الأوسط الآن واضحاً للعيان، لكن من الصعب رؤية أي استراتيجيةٍ أيديولوجية أو تحديد أهدافٍ شاملة، رغم أنّ كراهيته المعروفة لتغيير أي نظام تُؤدّي دوراً دون شك. وفي حين تجني روسيا الأموال من عقود الأسلحة والبنية التحتية، فإنها كانت تفعل ذلك قبل حتى أن تصير الوسيط الإقليمي الأهم.

وبدلاً من ذلك، يبدو أن نهج بوتين هو نهج الانتهازية السياسية. فمع تخفيض الدول الغربية لوجودها في الشرق الأوسط؛ استغل الفرص لاستعادة نفوذ روسيا بوصفها من القوى العظمى، وإضفاء مزيدٍ من الثقل على مطالبها حول العالم.

وربما كان الاتحاد السوفيتي هو مُزوّد الأسلحة الرئيسي في الشرق الأوسط طوال سنوات، إذ دعم الدول العربية في صراعاتها ضد إسرائيل، لكن يُمكن القول إنّ غزو أفغانستان الكارثي زاد من سرعة انهياره. كما لم تكُن شهية روسيا مفتوحةً للتدخّل في الشرق الأوسط خلال عهد بوريس يلتسن، وفلاديمير بوتين من بعده.

عاد بوتين إلى الشرق الأوسط بفضل حدثين وقعا في عام 2011، وشكّلا نظرةً عالمية تُواصل صياغة آليته في صنع القرار حتى يومنا هذا.

أوّلهما هو الربيع العربي، الذي أعقبته احتجاجات حرية الانتخابات داخل موسكو في وقتٍ لاحق من العام نفسه.

ورغم أنّ الغرب احتفى بالربيع العربي بوصفه منبعاً للديمقراطية، لكن بوتين رأى فيه دعوةً للفوضى وزعزعة الاستقرار.

كما رأى بوتين، الذي شهد وصول حكومات مؤيّدة للغرب إلى السلطة إثر «الثورات الملوّنة» داخل أوكرانيا وجورجيا، في الاحتجاجات بروفةً إضافية من أجل تغيير النظام المفترض في روسيا بدعم من الولايات المتحدة. واتّهم وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون بالتحريض على التظاهر في موسكو، وجادل بأنّ تلك الانتفاضات تُثير المشاعر القومية والتشدّد الإسلامي.

والحدث الثاني هو تصويت الأمم المتحدة لإنشاء منطقة حظر طيرانٍ فوق ليبيا، وبدء حملة قصفٍ أدّت إلى زوال معمر القذافي، الذي كان صديقاً لبوتين منذ نصّب خيمته البدوية داخل حدائق الكرملين خلال زيارةٍ رسمية عام 2008.

وبطلبٍ من أوباما، امتنع الزعيم الروسي حينها ديمتري ميدفيديف عن التصويت دون استشارة بوتين، الذي كان يخدم في منصب رئيس الوزراء آنذاك للتحايل على فترة الرئاسة المنصوص عليها في الدستور. 

وانتقد بوتين القرار، واستشاط غضباً أكثر حين قُتِلَ القذافي، قائلاً: «من المستحيل أن تُشاهد لقطات موته دون أن تشعر بالاشمئزاز». ثم زعم لاحقاً أنّ واشنطن هي من دبّرت عملية قتله.

وبالنسبة لبوتين، الذي اقترح ذات مرةٍ أنّ روسيا تستطيع الانضمام إلى حلف الناتو أو منطقة اليورو؛ برهن سقوط القذافي على غدر واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وحماقة محاولة استرضائهم.

وحين عاد إلى الرئاسة، راقب بوتين سوريا بقلقٍ مُتزايد وهي تغرق في حربٍ داخلية، بالتزامن مع سيطرة داعش على مساحات شاسعة من الأراضي. ورغم أنّه عارض تشجيع الغرب للانتفاضات الشعبية في الشرق الأوسط، لكنّه لم يتحرّك حتى عام 2015.

وبعد ضم موسكو لشبه جزيرة القرم عام 2014؛ فرضت إدارة أوباما عقوبات على روسيا، ورفضت تجزئة الأزمة الأوكرانية، وربطت كل القضايا بسلوك روسيا هناك. ثم طلب الأسد من موسكو، حليفة سوريا القديمة، المساعدة في محاربة الثورة السورية.

وبدأت روسيا بإرسال الدبابات والمدفعية، ونشر الطائرات الحربية في مطار حميميم، وإرسال سفن البحرية إلى البحر المتوسط بموجب خطةٍ يُقال إنّ من وضعها هو قاسم سليماني، الجنرال الإيراني الذي اغتالته الولايات المتحدة في وقتٍ مُبكّر من الشهر الجاري.

وفي سبتمبر/أيلول من عام 2015، شنّت روسيا غاراتها التي أعلن بوتين إنّها تهدف إلى دعم دمشق «في حربها الشرعية ضد الجماعات الإرهابية»، ولكنها استهدفت كذلك المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة. وبمساعدة طائرات روسيا التي حلّقت بمعدّل 100 طلعةٍ يومياً تقريباً؛ استطاع الأسد استعادة السيطرة على غالبية أنحاء البلاد.

واحتفظت روسيا بقاعدتها البحرية الأجنبية الوحيدة، معقلها في طرطوس منذ أيام الاتحاد السوفيتي، وحليفها الرئيسي في الشرق الأوسط -لكن انتصار بوتين الرئيسي جاء في الساحة الدبلوماسية.

وكما تحوّلت خسائر الأسد إلى مكاسب، انقلب حال حوار روسيا المُتجمّد مع الدول الأخرى. وبين ليلةٍ وضحاها تقريباً، تحوّلت من دولةٍ منبوذة إلى عضوٍ رئيسي في نادي الأمم التي تُقرِّر الأحداث العالمية.

وفي حين رفض الزعماء الآخرون الجلوس مع بوتين على مائدة العشاء خلال قمة العشرين في بريزبان؛ جلس وزير الخارجية الأمريكي بحلول عام 2016 على طاولة المفاوضات مع وزير خارجية روسيا في جنيف، واتفقا على وقف إطلاق النار وغارات القصف المشترك ضد داعش.

وقال ديمتري ترينين، مدير مركز Carnegie Center Moscow البحثي: «سوريا هي من أخرجت روسيا من حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي، وجعلتها قوةً مرئية في السياق العالمي. وبعد سوريا، بدأ الحديث عن روسيا بوصفها منافسةً للولايات المتحدة، ودولةً تستطيع قلب مسار النظام العالمي. ومثّلت ليبيا تطوّراً إضافياً في هذا الاتجاه».

وقال فلاديمير فرولوف، المحلل الذي عمل في السابق لدى السفارة الروسية بواشنطن: «بوتين يُريد تأكيد فكرة أنّه لا يرى في روسيا قوةً إقليمية -بعكس أوباما-، رغم أنّ موسكو لا تمتلك الموارد اللازمة من أجل إسقاط نفوذها على نطاقٍ كبير».

ولكن إذا كان التدخُّل الروسي في سوريا قد بدأ بوضوح، فإنّ تدخّلها في بقية المنطقة كان أكثر ضبابية.

ومع حضور ذكرى مستنقع أفغانستان الدموي في أذهان الكثير من الروس، كان بوتين حريصاً على الوعد بأن لا تطأ الأقدام أرض سوريا. لكن تدخُّل موسكو تنامى؛ وبات عليها أنّ تكون أكثر ابتكاراً لإدارة حربها.

ونشرت مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة، المرتبطة بيفغيني بريغوزين صديق بوتين الذي فُرِضَت عليه عقوبات لاحقاً لتدخُّله في الانتخابات الأمريكية، مئات المقاتلين في سوريا بحسب أقوال مرتزقةٍ سابقين. 

وأنكر الكرملين وجودهم، حتى بعد تفجير العشرات منهم خلال الغارات إبان اقترابهم من موقعٍ أمريكي-كردي في دير الزور عام 2018.

واستُخدمت هذه الوصفة أيضاً خلال التدخّل الروسي في ليبيا. إذ حضر بريغوزين اجتماعاً في موسكو بين حفتر وبين وزير الدفاع الروسي عام 2018. 

وبحلول ربيع عام 2019، أفادت الاستخبارات البريطانية بأنّ 300 من مرتزقة فاغنر كانوا يدعمون القائد الليبي. وتعتقد الحكومات الغربية أنّ مجموعة فاغنر تُرسل الأسلحة، والدبابات، والطائرات بدون طيار إلى ليبيا منذ أكثر من عام.

وتنصّل بوتين من أيّ علاقةٍ تربطه بالمواطنين الروس الذين يُقاتلون في ذلك البلد، لكنّه كان سعيداً باستخدام قوة التفاوض التي منحوها له. 

ومن هنا جاءت مفاوضات السلام مع أردوغان، الذي أرسل بدوره مستشارين عسكريين إلى طرابلس أوائل يناير/كانون الثاني، لدعم حكومة فايز السراج المدعومة من قبل الأمم المتحدة. 

والآن، زعماء أوروبا يتوقون لاستغلال النفوذ الروسي في حل الصراع، لأنّ ليبيا هي آخر منفذٍ مائي كبير لتهريب الناس إلى أوروبا، وهو ما برهنت عليه ميركل مثلاً بزيارتها الأخيرة إلى موسكو.

وقال ترينين: «ليست المهمة الرئيسية هي أن ندخل طرابلس على أكتاف جيش حفتر، بل أن نصير صُنّاع السلام بين حفتر وبين السراج. ولحسن الحظ أنّ الولايات المتحدة لا تشارك بنشاطٍ في العملية، مما خلق فراغاً في هذا الجانب، وروسيا تستغله».

وخلال حديثه إلى الصحفيين يوم الجمعة، 17 يناير/كانون الثاني، اعترف وزير الخارجية الروسي بأنّ حفتر «طلب المزيد من الوقت» قبل التوقيع على اتفاق الهدنة الذي جرى التفاوض عليه لمدة ثماني ساعات في موسكو. لكنّه زعم أنّ وقف إطلاق النار الذي أعلنه بوتين مع أردوغان لا يزال سارياً. وقال إنّ روسيا شاركت في صياغة اتّفاقٍ من أجل مؤتمر برلين، وستضغط من أجل توقيعه.

ولا شكّ أنّ فكرة إنهاء روسيا للفوضى، التي خلّفها التدخّل الغربي منذ عام 2011، هي فكرةٌ تروق لبوتين. ولكنّها تجارةٌ جيدةٌ بالنسبة لروسيا أيضاً، بعد أن خسرت مشروع سككٍ حديدية وغيره من العقود المربحة إثر سقوط القذافي.

إذ تُشير التقارير إلى أنّ المرتزقة الروس يحمون العديد من حقول النفط الليبية بالفعل. لذا ستعود طرابلس لتصير من المشترين الرئيسيين للأسلحة الروسية بمجرد أن يبدأ الذهب الأسود في التدفّق من جديد، كما كانت في عهد القذافي.

وبالنسبة لبوتين، فإنّ المصالح السياسية والاقتصادية متداخلةٌ بشكلٍ وثيق في الشرق الأوسط.

وكانت الاتفاقيات التي بدأتها روسيا والسعودية عام 2016، لخفض إنتاج النفط وزيادة الأسعار، من المكاسب المبكرة لعملية سوريا -وصارت تلك المفاوضات ممكنةً بفضل نفوذ موسكو الجديد في المنطقة، وفقاً للمحلّل البارز ورئيس مجلس إدارة منظمة Council for Foreign and Defense Policy الروسية فيودور لوكيانوف.

والآن، مع خفض الولايات المتحدة لأعداد قواتها في العراق؛ دفعت نجاحات روسيا الاقتصادية بالبلاد إلى وضعٍ يسمح لها أنّ تحصد نفوذاً سياسياً في دولةٍ شرق أوسطيةٍ أخرى.

إذ استثمرت روسيا في صمت 10 مليارات دولار في قطاع الطاقة العراقي خلال العقد الماضي، وتعمل على تطوير العديد من حقول النفط والغاز الواعدة. كما وقّعت صفقة أسلحة بقيمة 4.2 مليار دولار مع العراق عام 2012، وبدأت تُسلِّمه دبابات ومروحيات هجومية وصواريخ. وفي أعقاب قتل الولايات المتحدة لسليماني؛ قال السفير العراقي في إيران إنّ بغداد تُناقش مرةً أخرى فكرة شراء صواريخ أرض-جو روسية متطوّرة.

لكن المكسب الأكبر لبوتين من كل تلك المشاريع ليس المال، بل القواعد العسكرية أو النفوذ في الشرق الأوسط. أي القدرة على جعل مطالب روسيا أكثر حزماً في المناطق الأقرب من أراضيها.

وما يُريده بوتين في الشرق الأوسط هو توزيعٌ أفضل للأوراق داخل أوروبا وآسيا.

إذ قال لوكيانوف: «كلما زادت قوة روسيا في العالم؛ بات من السهل عليها تحقيق سياساتها في أوراسيا، من أوروبا وحتى الصين. ونظراً لأنّ الاقتصاد الروسي ضعيف؛ فيجب عليها أن تُعوّض ذلك في المجالات الأخرى عن طريق الدبلوماسية، والقوة العسكرية، والقدرة على حلّ مختلف القضايا. وفي هذا الصدد، تتفوّق روسيا على الجميع».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى