ثقافة وادب

أخذتها بريطانيا بالقوة من الهند وادّعت حركة طالبان ملكيتها.. قصة أغلى جوهرة “ملعونة” في العالم

في احتفال عام يوم 29 مارس/آذار 1849، استُقبل مهراجا إقليم البنجاب، دوليب سينغ، في قاعة فخمة جدرانها مُزيّنة بالمرايا، وسط الحصن الكبير بمدينة لاهور الباكستانية كانت مراسم تسلُّم جوهرة جبل النور، أغلى جوهرة في العالم. 

رضخ المهراجا صغير السن لأشهر طويلة من الضغط البريطاني، ووقَّع على وثيقة خضوع رسمية عُرفت فيما بعد باسم “معاهدة لاهور”، التي بموجبها سيطرت شركة الهند الشرقية البريطانية على مساحات كبيرة من أغنى الأراضي الهندية، التي أصبحت حتى تلك اللحظة مملكة السيخ المستقلة في البنجاب، وهي منطقة شمالية في جنوب آسيا، حسب ما ذكرت مجلة BBC History البريطانية. 

دُفع المهراجا دوليب سينغ لتسليم الملكة فيكتوريا ما يُمكن القول
إنَّه أقيم شيء ليس في البنجاب فحسب، بل في شبه القارة الهندية بأكملها: ماسة
“كوه نور” الشهيرة، وتعني بالعربية “جبل النور”.

نصّت المادة الثالثة من معاهدة لاهور على أنَّ مهراجا لاهور سيتنازل
لملكة إنجلترا عن تلك الجوهرة المُسماه “جبل النور”، التي أخذها
المهراجا رانجيت سينغ، زعيم إمبراطورية السيخ، من شاه شجاع الدراني، ملك
أفغانستان.

نمت شركة الهند الشرقية البريطانية، أول شركة متعددة الجنسيات في
العالم، على مدار قرن من الزمان من شركة مقرها في مكتب صغير بمدينة لندن، ولديها
فريق عمل دائم مكوّن من 35 موظفاً فقط إلى أقوى مؤسسة ذات طابع عسكري في التاريخ.

 ظلَّت عيون الشركة مُثبّتة على إقليم البنجاب وماسة “جبل
النور” لسنوات عديدة، وحين واتتهم فرصة الاستحواذ على كليهما في عام 1839 حين
توفى والد دوليب سينغ، المهراجا رانجيت سينغ، وانحدر البنجاب إلى الفوضى، قرروا
السيطرة عليه.

وبعد صراع عنيف على السلطة، وتنفيذ العديد من الاغتيالات، واندلاع
حرب أهلية وغزو بريطاني مرتين للإقليم في وقتٍ لاحق، نجحت القوات العسكرية التابعة
للشركة أخيراً في هزيمة الهيئة الدينية للسيخ المعروفة باسم “khalsa” في معركة “Chillianwala” الدامية يوم 13
يناير/كانون الثاني من عام 1849. 

ووصل الحاكم العام الإنجليزي في الهند، لورد دالهوزي، إلى لاهور كي
يتسلّم رسمياً جائزة الانتصار من دوليب سينغ، ماسة جبل النور.

بعد ذلك بفترة وجيزة أُرسلت ماسة “جبل النور” إلى إنجلترا،
حيث أقرضتها الملكة فيكتوريا على الفور إلى “المعرض الكبير” (The Great Exhibition)، الذي أقيم في عام 1851 بقصر الكريستال (أو قصر المعارض) في
منطقة هايد بارك، لندن.

 امتدت طوابير طويلة عبر القصر، حيث احتشد الجمهور لرؤية تذكار
الانتصار الفخم الشهيرة، وحُفظت ماسة “جبل النور” داخل حافظة زجاجية ذات
درجة أمان عالية محمية داخل صندوق حديدي.

بفضل هذه التدابير المشددة إضافة إلى تغطية الصحافة البريطانية
واحتشاد الجمهور، سرعان ما أصبحت ماسة “جبل النور” الماسة الأشهر في
العالم،
بل تحولت إلى أشهر قطعة ثمينة منهوبة من الهند. 

كان وجود الماسة في لندن بمثابة رمز للهيمنة البريطانية على العالم
خلال العهد الفيكتوري ومدى قدرة الإمبراطورية البريطانية، على انتزاع أكثر الأشياء
الجذّابة المرغوبة من جميع أنحاء العالم، وعرضها لتمُثّل الانتصار مثلما فعل
الرومان مع التحف النادرة والمقتنيات النفيسة، التي كانوا يستولون عليها خلال
غزواتهم قبل 2000 عام.

أصبحت العديد من الماسات المغولية الكبيرة الأخرى، التي كانت تنافس
“جبل النور”، في طي النسيان تقريباً مع تنامي شهرة تلك الماسة، التي
حقَّقت مكانة فريدة كأعظم جوهرة في العالم. 

لا يتذكر سوى عدد قليل من المؤرخين أنَّ “جبل النور” التي
كانت تزن 190.3 قيراط متري عند وصولها إلى بريطانيا، لها مثيلتان على الأقل، هما
“بحر النور” (درياي نور) الموجودة حالياً في طهران، ويقدر وزنها ما بين
175 و195 قيراطاً مترياً.

الماسة الأخرى هي “المغولية العظيمة”، التي يعتقد معظم
خبراء الأحجار الكريمة أنّها نفسها ألماسةَ أورلوف، ويُقدّر وزنها حوالي 189.6
قيراط متري، وموجودة حالياً في صولجان الإمبراطورة الروسية، كاثرين العظمى،
المحفوظ حالياً في البرلمان الروسي (الكرملين).

لم تبدأ ماسة “جبل النور” في تحقيق شهرة لافتة إلا في
أوائل القرن التاسع عشر عندما وصلت إلى البنجاب وأيدي المهراجا رانجيت سينغ، وكان
ذلك بسبب تفضيل رانجيت سينغ أحجار الألماس على الياقوت، إذ إنَّ السيخ ومعظم
الهندوس كانوا يميلون إلى أحجار الألماس، في حين فضَّل المغول والفرس الأحجار
الكريمة الكبيرة غير المصقولة ذات البريق الملون الزاهي.

وفي خزانة المغول، كان “جبل النور” واحداً من بين عدد من
القطع المميزة في أعظم مجموعة أحجار كريمة جُمعت على الإطلاق، فضلاً عن أنَّ
الأحجار الكريمة الأثمن في هذه المجموعة لم تكن أحجار الألماس، بل كانت أحجار
الإسبينل والياقوت الأحمر من ولاية بدخشان، شمال شرق أفغانستان.

زادت مكانة “جبل النور” بسبب ارتفاع أسعار الألماس بوتيرة
سريعة في جميع أنحاء العالم في أوائل ومنتصف القرن التاسع عشر عقب اختراع الـ(brilliant
cut)، وهي
طريقة تقطيع حجر الألماس على شكل مستدير بات معروفاً بـ”البرلنت”، الأمر
الذي أدَّى بدوره إلى ظهور موضة خواتم الخِطبة ذات الأحجار الماسية البرلنت
(المستديرة) في زيجات الطبقة المتوسطة في أوروبا وأمريكا.

وصلت “جبل النور” إلى النجومية العالمية حين بدأ الألماس
الهندي يُذكر بصورة كبيرة في الروايات الشهيرة الرائجة خلال العصر الفيكتوري –في
كثير من الأحيان باعتباره جواهر ملعونة تسكنها الأرواح الشريرة- مثل رواية “The
Moonstone”
للكاتب وليام ويلكي كولينز عام 1868. 

لذلك استطاعت ماسة “جبل النور” في منفاها الأوروبي تحقيق
مكانة فريدة عالمياً، بل أسطورية، لم تبلغها قبل مغادرة وطنها الهندي. 

وظلَّت الحالة الأسطورية لـ”جبل النور” تتعاظم في كل مرحلة
بشكلٍ ملحوظ، واليوم أصبح السائحون الذين يرون ماسة “جبل النور” في برج
لندن يتفاجئون بصغر حجمها، لاسيما عند مقارنتها بألماستي كولينان الأكبر حجماً
المعروضتين بجانبها. 

إلا أن مكانتها أكبر بكثير من حجمها أو النظر إليها على أنها قطعة
ماس، لاسيما أن ترتيبها يأتي في المركز الـ90 في قائمة أكبر الماسات حجماً في
العالم. 

أصبحت الماسة مُجدّداً محور خلاف دولي، إذ تطالب الحكومة الهندية
باستعادتها، لكن حتى الآن يبدو أنَّ المسؤولين في الهند غير قادرين على حسم
التاريخ الضبابي لـ”جبل النور”.

ففي 16 أبريل/نيسان 2016، أخبر النائب العام الهندي، رانجيت كومار،
المحكمة العليا الهندية أنَّ ماسة “جبل النور” منحها المهراجا رانجيت
سينغ للبريطانيين طوعاً في منتصف القرن التاسع عشر، ولم “تُسرق أو تؤخذ
بالقوة”، وهي شهادة تناقض وقائع التاريخ بصورة مذهلة، وما يزيد من غرابة
الأمر أنَّ حقائق التنازل عن الماسة في عام 1849 تبيّن الجانب الوحيد للقصة، وهو
لم يكن محل خلاف.

يقول المؤرخ الفارسي محمد
كاظم مارفي إن ماسة جبل النور تخص الهند، واستولى عليها البريطانيون تحت تهديد
السلاح، لذا يتوجَّب عليهم إعادتها. 

وفي ظل التأكيد على كون مصدر
الماسة هو جنوب الهند -ربما مناجم كولور الموجودة في منطقة غولكوندا المعروفة الآن
باسم ولاية تيلانجانا- لكنَّ كلاً من بلاد فارس وأفغانستان وباكستان لها مزاعم
تتعلَّق بتلك الماسة.

فقد امتلكها نادر شاه في
فترات مختلفة، وامتكلها أحمد شاه الدراني، الزعيم الأفغاني، في منتصف القرن الثامن
عشر (1722-1772)، وبالطبع امتلكها رانجيت سينغ حاكم مدينة لاهور.

أعلنت الدول الثلاث، في
فتراتٍ مختلفةٍ، ملكيتها للماسة، واتخذت إجراءاتٍ قانونيةٍ لاستعادتها، حتى حركة
طالبان الأفغانية سجَّلت مُطالبتها بالحجر. 

هناك من يقول إن رانجيت سينغ
استولى على الماسة بالقوة مثلما فعل البريطانيون، وبنفس الطريقة التي تحاول
المصادر البريطانية طمسها اعتمد سينغ على العنف المتأصل في الاستيلاء على
الحجر. 

إلا أنَّ السيرة الذاتية
لمالك الماسة السابق شاه الدراني (1785-1842) كانت واضحة، فبعد الإطاحة بأمير
أفغانستان شجاع شاه الدراني عام 1809 نُفي إلى الهند. 

وفور وصوله إلى مدينة لاهور،
التي دعاه إليها رانجيت سينغ في عام 1813، فُصِلَ شجاع شاه عن الحرملك، ووُضع تحت
الإقامة الجبرية في منزله وأُمِرَ بتسليم الماسة.

 كتب شجاع شاه في
مذكراته: “أقامت سيدات الحرملك في قصرٍ آخر، حيث لم يكن بإمكاننا الوصول
إليهن وإمعاناً في إذلالنا قللوا حصة الطعام والماء إلى أن منعوها بشكلٍ
تعسفي”. 

اعتبر شجاع شاه ما حدث
انتهاكاً فظاً لقوانين الضيافة فعبَّر عن استيائه، قائلاً: “ما حدث كان عرضاً
غبياً لسوء خلق سينغ، كان حقيراً ومستبداً”

وبالتدريج، زاد رانجيت سينغ
الضغط، حتى زُج بشجاع شاه في قفص؛ وتقول إحدى الروايات إنَّ ابنه الأكبر تعرَّض
للتعذيب أمام عينيه حتى وافق على التخلي عن أغلى ممتلكاته، جبل النور.

كتب المؤرخ الميرزا آتا محمد:
“كان طمع رانجيت سينغ في ماسة جبل النور يفوق أي شيء في العالم، حتى إنَّه
خرق قوانين الضيافة من أجل الحصول عليها، وسُجِنَ شجاع شاه لفترةٍ طويلة، وتركه
حراسه تحت أشعة الشمس الحارقة، لكن دون جدوى، إذ إنَّه رفض الإفصاح عن مكان
الماسة. 

إلى أن جلبوا ابنه الصغير،
محمد تيمور، وجعلوه يركض السلالم صعوداً وهبوطاً ملامساً بلاط القصر الملتهب تحت
أشعة الشمس، حافي القدمين ومن دون غطاء على رأسه، كان الطفل مُدللاً ولم يكن
بمقدوره تحمُّل هذا العذاب، فصرخ بصوتٍ عالٍ وبدا أنَّه موشك على الوفاة. لم يستطع
الملك تحمل رؤية فلذة كبده يُعاني”. 

وأخيراً، في مطلع
يونيو/حزيران عام 1812، دخل رانجيت سينغ شخصياً مقر إقامة شجاع شاه مع وجود عدد
قليل من الحضور. استقبله شجاع شاه بقدر كبير من الاحترام.

 قطع رانجيت الصمت، بعد
أن نفد صبره، هامساً لأحد الحضور يطلب منه تذكير الشاه بالهدف من مجيئه. لم يتلقَّ
أي رد، لكن الشاه أومأ بعينيه إلى خادمه، الذي ذهب ليُحضر لفافة صغيرة، ووضعها على
السجادة على مسافةٍ متساويةٍ بين الزعيمين، طلب رانجيت من الخادم الكشف عما هو
داخل اللفافة، لتظهر الماسة.

عانى العديد من مالكي الماسة،
من بينهم شجاع شاه، بأبشع الطرق، وهناك الكثير من مالكيها الذين أُصيبوا بالعمى،
والموت بالسم البطيء، والتعذيب حتى الموت، وهناك من حُرِقَ في النفط، وهُدد
بالغرق، ومن سُكِبَ عليه الرصاص المنصهر، واغتيلَ على يد أسرته وأقرب حراسه
الشخصيين. 

حتى ركاب وطاقم سفينة HMS Medea تفشَّى بينهم وباء
الكوليرا، وتعرضوا للعواصف عندما كانت ماسة جبل النور على متنها لنقلها من الهند
إلى إنجلترا في عام 1850. 

 يرى البعض ضرورة بناء
متحف يوضع به الحجر في مبنى واجا بمدينة لاهور، الواقعة على الحدود بين الهند
وباكستان، وهي مؤسسة فريدة يُمكن الوصول إليها من كلا الجانبين. فيما قال آخرون
إنَّه ينبغي تقطيعها وتوزيعها على البلدان التي تقدم حججاً موثوقة لاستعادتها،
ومنها إيران وأفغانستان. 

لا تُثير تلك القصة قضايا
تاريخية مهمة فحسب، بل قضايا معاصرة أيضاً، تعتبر مقياساً ونقطة جذب للمواقف تجاه
الاستعمار، وتطرح سؤالاً مهماً، ألا وهو: ما الرد المناسب على عمليات النهب داخل
الإمبراطورية؟ هل نتجاهلها ببساطةٍ باعتبارها جزءاً من التاريخ غير الخاضع لنظامٍ
أو قانون، أم ينبغي محاولة تصحيح أخطاء الماضي؟

الأكيد أنَّنا لن نرى هذه
الماسة خارج برج لندن في المستقبل القريب، وبالنظر إلى تاريخ تلك الماسة الحافل
بأعمال العنف والأحداث المأساوية في غالب الأحيان، ربما لن تكون فأل خيرٍ. 

بعد قرابة 300 عام من الوقت
الذي حمل فيه نادر شاه الماسة من دلهي، متسباً في هدم إمبراطورية المغول، وبعد 170
عاماً من وصولها إلى أيدي البريطانيين، يبدو أنَّ “كوه نور” لم تفقد
أياً من قوتها المُسببة لحدوث الانشقاق والانقسامات. يبدو أنَّ تلك الماسة، في أفضل
الأحوال، تجلب مصائرَ مختلطةً لمن يحملها أينما ذهب. 

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى