تقارير وملفات إضافية

بعدما أحرجت اليونان فرنسا.. كيف كشفت العلاقات مع تركيا الخلافات التاريخية العميقة داخل الاتحاد الأوروبي؟

في خضم التوتر في العلاقات التركية الأوروبية يظهر أن هناك انقساماً عميقاً داخل أوروبا بشأن أنقرة.

وتسعى فرنسا إلى حشد أوروبي ضد تركيا، والمفارقة أن هذا يتم في وقت تتقارب فيه باريس مع روسيا، العدو الرسمي لحلف الأطلنطي وبالتزامن مع الكشف عن فضيحة دفع روسيا رشاوى لمقاتلي طالبان لقتل الجنود الأمريكيين في أفغانستان.

وحذر وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، الاتحاد الأوروبي من اتخاذه قرارات إضافية ضد تركيا، مشيراً أن ذلك سيدفعهم للرد والتسبب في زيادة التوتر.

جاء ذلك في تصريح صحفي مع الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في العاصمة التركية أنقرة.

وأشار إلى وجود علاقات وثيقة وواعدة مع الاتحاد الأوروبي، مؤكداً على ضرورة وفاء الأخير بالتزاماته تجاه تركيا.

وذكر أن من التزامات أوروبا مسألة تحرير التأشيرات وتحديث الاتحاد الجمركي، لافتاً أن تركيا استوفت 67 مادة من المعايير اللازمة في الاتفاق مع أوروبا.

وحول اتهامات فرنسا لتركيا لدورها في ليبيا، أشار تشاووش أوغلو أن باريس تقدم كافة أنواع الدعم للانقلابي خليفة حفتر، مضيفاً أنه مع توالي هزائمه في الميدان بدأت تكيل التهم لتركيا انتقاماً لخسائرها.

وأضاف أن آخرها اتهامات التحرش بسفينة فرنسية في المتوسط، مشيراً أن أنقرة أكدت عدم صحة تلك الاتهامات.

وشدد تشاووش أوغلو على ضرورة تقديم فرنسا الاعتذار لتركيا لاتهاماتها الباطلة، والاعتذار أيضاً للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي “الناتو” لتضليلهما.

وتحاول فرنسا تقديم الخلافات بين قبرص واليونان كذريعة للحشد ضد أنقرة. والمفارقة في هذا الصدد أنه حتى أثينا، الخصم التاريخي لتركيا والتي تستغلها ألمانيا وبالأكثر فرنسا، حجة لخلق توتر مع أنقرة، فإن رئيس وزرائها هاتف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً، وأبلغه أن اليونان لم تكن من الدول التي صوتت على عدم إدراج تركيا في الدولة التي رفع عنها حظر السفر.

وقال رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس يوم الثلاثاء إنه يشعر بمزيد من الراحة في الرد على الهاتف مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ مكالمة لكسر الجليد جرت بينهما في يونيو/حزيران الماضي.

وأضاف أن اليونان ليست من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي أصرت على إبقاء تركيا خارج قائمة الدول الآمنة في حل قيود السفر الخاصة بفيروس كورونا، وهو موقف من الاتحاد الأوروبي أغضب أنقرة.

 وقال ميتسوتاكيس لإذاعة سكاي اليونانية “نحن جيران ولدينا اختلافات كبيرة، لكن هذا لا يعني أننا لا يجب أن نتحدث”. 

المفارقة أنه بينما تسعى بعض دول شمال أوروبا مثل ألمانيا وفرنسا وأحياناً دول مثل هولندا إلى محاولة تقديم تركيا كخصم لأوروبا، فإن دول شرق وجنوب أوروبا التي كانت تاريخياً على احتكاك مع الدولة العثمانية هي الأكثر حرصاً على علاقتها مع تركيا.

ويبدو أن لسان حال هذه الدول المهمشة في أوروبا، التي تعاني مما تعتبره محاولة للهيمنة من قبل دول الشمال، أن تركيا فعلت ما لم نستطع نحن فعله، وهو التمرد على بروكسل (التي تحكمها فعلياً برلين وباريس).

ظهر هذا في مواقف عديدة منها التقارب الإيطالي التركي في العديد من الملفات، وخاصة ليبيا، والذي وصل إلى ذروته في قيام البحرية الإيطالية بتدريبات مشتركة مع نظيرتها التركية، في وقت يكاد يكون متزامناً مع احتكاكات بين البحريتين التركية واليونانية والتركية الفرنسية.

كما أن مواقف إيطاليا المنتقدة للاتحاد الأوروبي خلال أزمة كورونا، والخلافات الفرنسية الإيطالية بشأن الهجرة، والخلافات بين بولندا وألمانيا، تشير إلى رفض هذه الدول لما تعتبره وصاية ألمانية فرنسية عليها، وهو جزء من الخلافات الأساسية أيضاً بين أنقرة والاتحاد الأوروبي.

ويعد هذا جزءاً من سلوك عام لفرنسا وألمانيا تحديداً، في التعامل مع القوى الخارجية، إذ تنحو الدولتان إلى تحويل مصالحهما وصراعاتهما السياسية والاقتصادية إلى التزامات أوروبية.

ففرنسا مثلاً تدخل في صراع مع تركيا لأسباب أيديولوجية مرتبطة بعداء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الشخصي لنظيره التركي رجب طيب أردوغان والإسلام السياسي، وصداقته لمستبدي الشرق الأوسط المعادين للربيع العربي الذي يشترون أسلحته، ويتحالف معهم في مواطن عديدة من بينها ليبيا.

والمفارقة أن ماكرون يحاول توجيه سياسة الاتحاد الأوروبي، وكأنه يريد أن يقول إن قيم هذه الأنظمة الاستبدادية ومصالحها أقرب إلى أوروبا من تركيا.

والغريب أنه ضم لحاشية أصدقائه المستبدين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي تشير تقارير أوروبية إلى أنه ينفذ سياسات ترمي لتفكيك الاتحاد.

فروسيا هناك اعتقاد راسخ أنها موَّلت دعايات لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى علاقة وثيقة مع إسبانيا ظهرت من خلال الدعم التركي لمدريد خلال ذورة معاناة الأخيرة من جائحة كورونا، إضافة إلى مساعدة إسبانيا لأنقرة في بناء حاملة طائراتها الأولى.

ألمانيا تقوم بدورها بأمر مماثل، فبينما تشكو الولايات المتحدة من العجز التجاري المزمن مع أوروبا، الذي هدد بنزاع تجاري مرير بين الجانبين، فإن الواقع أن العجز تتسبب فيه بالأساس الصادرات الألمانية، وتحديداً السيارات الألمانية، بينما تتورط أوروبا كلها فيه.

وخلال الأزمة المالية العالمية والتي ضربت جنوب أوروبا خاصة اليونان، كان الهدف الرئيسي لحزمة المساعدات الأوروبية حماية أموال البنوك الألمانية والفرنسية، حتى لو أدى ذلك إلى بيع اليونانيين لفضيات أسرهم.

ومازالت ألمانيا، وبصورة أكبر فرنسا، تمارسان هذه السياسة، من خلال استخدام الاتحاد الأوروبي كمنصة لأهدافهما، حسبما كشف الإعلام الألماني.

فقد أرجعت وسائل إعلام ألمانية استثناء الاتحاد الأوروبي وألمانيا لتركيا من لائحة البلدان الآمنة للسفر، إلى أسباب سياسية وليست صحية.

وذكرت صحيفة “دي ويلت” الألمانية، أن “ألمانيا حاولت الدخول في لعبة مصالح ضد تركيا تحت ستار فيروس كورونا”.

وأضافت الصحيفة أن إصابات كورونا في تركيا ليست سيئة كبعض الدول الأخرى، واصفةً تحذير السفر إليها بـ”غير المنطقي”.

وأوضحت أن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، أفاد في مناسبة سابقة، أن ألمانيا سمحت لمواطنيها بقضاء العطلة في أماكن أسوأ من ناحية كورونا.

وأفادت بأن الوزير التركي كان يقصد بريطانيا، عندما قال “أحد مراكز تفشي كورونا في أوروبا”.

بدورها، اعتبرت مؤسسة “Redaktionsnetzwerk Deutschland”، الإعلامية، أن تركيا على حق عندما تتهم أوروبا بازدواجية المعايير.

وشددت المؤسسة، على “وجود العديد من الحقائق في اتهامات تشاووش أوغلو لبرلين وبروكسل بازدواجية المعايير”.

وأردفت: “على الحكومة الألمانية تطبيق تحذير السفر بشكل أفضل، وإلا فإنها ستبقى متهمة بالاستخدام السيئ للتحذير كورقة ضد أنقرة”.

واستطردت: “هذا التصرف سيكون غير سليم وحكيم سياسياً، المشاكل السياسية مع تركيا لا يمكن حلها على حساب المصطافين”.

وأعلنت دول الاتحاد الأوروبي إعادة فتح حدودها، اعتباراً من مطلع يوليو/تموز الحالي، للقادمين من 15 دولة، اعتبرت أن وضع وباء كورونا فيها “جيد”.

واستثنى قرار إعادة فتح الحدود الأوروبية تركيا، بالرغم من نجاحها في مكافحة كورونا، بفضل البنية التحتية القوية التي تمتلكها بمجال الصحة.

جزء من الانتقادات الأوروبية لتركيا هو موضوع استخدام أنقرة لورقة اللاجئين ضد أوروبا، وهي انتقادات تتجاهل أن بروكسل لم تلتزم بتعهداتها مع أنقرة، في الاتفاق الخاص باللاجئين، خاصة إعطاء الأتراك حق دخول الاتحاد الأوروبي.

ظهرت الأزمة من خلال اتفاقية عام 2016 التي أبرمت بين الجانبين، لدعم أكثر من 3.7 مليون لاجئ سوري في تركيا، مع تقليل الدخول غير الرسمي إلى أوروبا.

وعادت قضية الهجرة إلى الظهور في فبراير/شباط 2020، عندما تدفق الآلاف من طالبي اللجوء نحو الحدود اليونانية، حيث سعت أنقرة للحصول على دعم الاتحاد الأوروبي لسياساتها في سوريا.

وفي حين أثار الحادث غضب العديد من المشرعين الأوروبيين، فإن القادة الأتراك انتقدوا الاتحاد الأوروبي لفشله في ترقية الاتحاد الجمركي بين الجانبين، ومتابعة خطة تحرير التأشيرات للمواطنين الأتراك على النحو المبين في اتفاق 2016.

مكمن الخلاف الأساسي بين الجانبين يعود إلى رغبة الاتحاد الأوروبي، أو بالأحرى القيادة الألمانية والفرنسية للاتحاد الأوروبي، أن تكون موجهاً لأنقرة أو بمعنى أدق، كانت تريد باريس ولندن من تركيا أن تظل مرشحة للدخول للاتحاد الأوروبي، وأن تخضع للالتزامات الثقيلة للمرشحين، مع الحصول على بعض المنافع الاقتصادية، دون أن يكون لها دور في القرار الأوروبي.

فعلياً، هذا وضع يشكو منه دول أوروبا الشرقية والجنوبية.

إذ يتم التعامل معهم على أنهم دول من المستوى الثاني أو الثالث داخل الاتحاد الأوروبي.

وفي الهيراركية التي تريدها بروكسل، فإن تركيا يفترض أن تكون في مستوى أقل، فهي عليها أن تنصاع على سبيل المثال لتوجيهات الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بصراعها مع اليونان وقبرص، اللتين هما دولتان أصلاً تشعران بالظلم داخل الاتحاد.

فإذا كان الظلم الحقيقي الذي تعرضت له أثينا خلال السنوات الماضية هو من بروكسل وباريس وبرلين، فإن القيادة الفرنسية الألمانية للاتحاد تحاول أن تنفس اليونان مظلوميتها عبر دعم أوروبي لأثينا ونيقوسيا في النزاع المعقد مع تركيا على الحدود والأزمة القبرصية.

وبدلاً من أن يحاول الاتحاد الأوروبي الذي يقدم نفسه كزعيم للعدالة والليبرالية في العالم، أن يكون وسيطاً محايداً بين الأتراك واليونانيين، أو ما سماه وزير الخارجية التركي وساطة صادقة في النزاع، فإنه يريد أن يكون محامياً لأثينا باعتبارها دولة عضوة بالاتحاد الأوروبي، وقاضياً في الوقت ذاته باعتبار تركيا جزءاً من المحيط الأوروبي ولديها شراكة مع أوروبا، ولكن هل يمكن تسمية هذا شراكة.

كما أن هذه المحاولة الاستقوائية البائسة تخالف موازين الجغرافيا والتاريخ بين البلدين التي يعرفها اليونانيون أكثر من ماكرون وميركل، (يوجد فارق هائل في القوة البشرية والجغرافية والاقتصادية والعسكرية بين اليونان وتركيا).

وهو ما جعل أثينا لا تتمادى كثيراً في هذه المحاولة، كما ظهر من اتصال رئيس الوزراء اليوناني بأردوغان، والذي بدا أنه يحاول التبرؤ من التوجه المعادي الذي تقوده باريس وتدعمه برلين بهدوء، بعد أن ورطهما غالباً إلى جانب بلاده في نزاع يصعب حله بحكم الجغرافيا.

لكن في مقابل هذا التوتر الفرنسي التركي، والجفاء الألماني التركي، فإن النفوذ التركي أصبح أقوى من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في شرق أوروبا، ولاسيما البلقان، حيث أصبحت تركيا منافساً لروسيا والاتحاد الأوروبي في هذه المنطقة.

ولاحظ العديد من الخبراء في السنوات الأخيرة “القوة الناعمة” لتركيا، ومنطقة البلقان ليست استثناءً، وفقاً لما ورد في تقرير نقله موقع Modern Diplomacy عن International Affairs.

وأصبحت منطقة البلقان مكاناً لعشرات المشاريع التعليمية والصحية والثقافية، مع تمويل تركيا للحملات الإنسانية، واستثمار مبالغ ضخمة في المشاريع التعليمية والطبية، وفي مرافق البنية التحتية والطاقة.

وقيد التطوير خطة لنشر كتب التاريخ الدراسية مع ألبانيا ومقدونيا والبوسنة والهرسك.

وفقاً لموقع Balkan Insight، فإن شعبية المسلسلات التركية في البلقان تعزز سلطة تركيا، ما يجعل من الممكن لأنقرة “إعادة كتابة التاريخ”.

واللافت أن العلاقات التركية في هذه المنطقة لم تعد وثيقة فقط مع الدول ذات الغالبية المسلمة مثل ألبانيا، وكوسوفا، والبوسنة والهرسك، بل أيضاً عززت أنقرة علاقتها مع دول يفترض أنه يفصلها عنها نزاعات تاريخية، مثل صريبا، وبلغاريا، كما لدى تركيا علاقات وثيقة مع رومانيا.

وهي دول يفترض أن لديها حساسية بديهية من أي صعود تركي، لأنها هي الدول التي خضعت للحكم العثماني، ولكنها نجحت في إقامة شراكة ناجحة مع أنقرة، وهي شراكة في مجالات اقتصادية مهمة منها مشروع خط غاز السيل التركي، الذي يأتي من روسيا ماراً عبر تركيا إلى عدد من دول البلقان.

فعلى عكس التسعينيات، عندما كانت سياسة أنقرة في البلقان موجهة، أولاً وقبل كل شيء في البلدان والمجموعات القريبة عرقياً ودينياً، أصبحت تركيا الآن تعمل على إيجاد موطئ قدم لها في جميع دول منطقة البلقان.

بالنسبة لتركيا، فإن الشركاء الرئيسيين هم ألبانيا، والبوسنة والهرسك، ومقدونيا الشمالية، ورومانيا، والمنافسون من “المستوى الثاني” هم كرواتيا، والجبل الأسود، وكوسوفو، وصربيا. 

ولكن تزايدت أهمية الأخيرة بشكل مطرد في نظر الدبلوماسيين الأتراك.

ووصف أردوغان، الذي زار بلغراد في أكتوبر/تشرين الأول 2019، صربيا بأنها “دولة رئيسية للسلام والاستقرار في البلقان”. وقال إن التعاون مع صربيا وصل إلى مستوى “مثالي”.

والسبب في نجاح علاقة تركيا مع هذه الدول أنها قامت على فكرة الاحترام والمتبادل وعدم الفوقية، التي تمردت أنقرة عليها في تعاملها مع برلين وباريس، وتشكو منها هذه الدول أيضاً.

كما حافظت تركيا على علاقة وثيقة مع المملكة المتحدة، التي تستعد للخروج من الاتحاد الأوروبي.

نهج الزعامة الألمانية الفرنسية، الذي يحاول أن يفرض وصاية على دول الاتحاد الأوروبي ومحيطه بما فيه تركيا، هو المشكلة الأساسية وراء التوتر في العلاقات التركية الأوروبية.

ويفترض هذا النهج أنه يمكن للاتحاد الأوروبي أن يمارس سياسة أبوية تجاه أنقرة، ولا تحتمل القيادة الأوروبية الشمالية فكرة أن تركيا ترد على ذلك عادة. 

أحد أسباب هذه المشاكل هو حالة العداء من قِبل العديد من القوى السياسية الألمانية، وفي دول أوروبا الجرمانية الأخرى (مثل النمسا وهولندا)، للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو عداء يتدثر بالمزاعم المتكررة عن الاستبداد، ليحاول تغطية غضب واضح للعيان من شعبية أردوغان في أوساط الجالية التركية الضخمة بألمانيا وبقية دول أوروبا، وهو ما يتناقض مع المشروع الألماني الذي يقوم على نسيان المهاجرين لخلفياتهم الوطنية والدينية.

بدا ذلك واضحاً من الغضب الألماني غير المبرر لالتقاط نجم كرة القدم الألماني ذي الأصول التركية مسعود أوزيل لصورة مع أردوغان، وهو غضب لم نره عندما أصبح المستشار الألماني السابق، غيرهارد شرودر، رئيساً لمجلس إدارة شركة روسية محسوبة على الكرملين رغم انتقادات ميركل له.

إذ تمثل الجالية التركية في أوروبا حالة استثنائية، فهي ليست جالية مندمجة أو ذائبة كالأوروبيين الشماليين والجنوبيين، وهي ليست منزوية كجاليات عربية وإسلامية إفريقية أخرى.

بل هي خلقت ما يشبه تركيات صغيرة في قلب أوروبا، وهذا أمر يغضب كثيراً من القوى السياسية الأوروبية يميناً ويساراً.

فهذه الجاليات تحافظ على هويتها مع تخليها عن شعور أنها أقلية، والأسوأ بالنسبة لقوى سياسية أوروبية كثيرة، أن هذه الجاليات التركية منظمة وعلى علاقة بوطنها، ويتمتع أردوغان بشعبية كبيرة في أوساطها.

وهي أمور تُغضب كثيراً من السياسيين والمثقفين الأوروبيين، وتتجاهل عادة أن هذه المعادلة التي تقوم عليها أوضاع الجاليات التركية في أوروبا جعلتها الأقل اختراقاً من قبل الجماعات الإرهابية، لأن قوة التيار الإسلامي المعتدل في أوساطها، وشعورها بالانتماء يمنع التفتت والاغتراب اللذين يمثلان أقوى رافد للإرهاب والتطرف. 

الأزمة أن الطرفين يعانين من هذا التوتر، فتركيا مضطرة لبناء شراكة صعبة مع روسيا، بينما أوروبا تعاني جراء اعتمادها المبالغ فيه على الطاقة الروسية، والصناعات الصينية.

فإحدى تداعيات جائحة كورونا، هي رغبة أوروبا في تقليل الاعتماد على بكين في مجال سلاسل إعادة التوريد وجعلها أقرب إلى أوروبا.

وفي هذا الصدد، قال إيلكي تويغور، محلل الشؤون الأوروبية لموقع Al-monitor الأمريكي، إن هناك نقاشاً في الاتحاد الأوروبي حول إعادة وضع سلاسل التوريد جراء أزمة كورونا، وهناك رغبة في تقريب سلاسل التوريد وإنتاج السلع من القارة، وتركيا هي المرشح الجيد لذلك.

 وقال سينم آدار، الزميل في مركز دراسات تركيا التطبيقية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن أنقرة وبروكسل تختلفان فيما يبدو حول كيفية التعامل مع مجموعة من القضايا التي تشمل العلاقات الثنائية.

وأضاف “أعتقد أولاً مع فتح تركيا للحدود للاجئين، ثم مع النقاش حول إعادة آيا صوفيا إلى مسجد، فإن الأتراك يخالفون المعايير الدبلوماسية، وأعتقد أنهم نوعاً ما يفعلون ذلك عن قصد لإثبات وجهة النظر، وهي أن تركيا ممثل مستقل ولا تخشى أحداً أو أي شيء”.

هدف تركيا من هذه الرسائل ليس خلخلة الاتحاد الأوروبي كما يريد بوتين، ولكنها تضغط من أجل علاقة متوازنة، والمفارقة أنها تمكنت نسبياً من تحقيق ذلك مع الدول التي يفترض أنها كانت لديها حساسيات تاريخية معها، بينما دولة مثل ألمانيا كانت حليفاً تاريخياً مع تركيا فإن مثل هذه العلاقة المتوازنة أصبحت صعبة.

يحاول الألمان وغيرهم من الأوروبيين الشماليين تحميل الرئيس التركي المسؤولية، ولكنهم يتجاهلون أن الشكوى من عجرفة الدول الأوروبية الشمالية الثرية، ولاسيما العجرفة الفرنسية الألمانية، هي شكوى واضحة أيضاً من دول جنوب أوروبا وشرقها.

المفارقة أن المثل العليا التي يعلنها الاتحاد الأوروبي، والتي يقول إنها جزء من أسباب خلافه مع تركيا، تبدو أنها قد رسبت في أكثر من اختبار، بدءاً من الموقف الأوروبي المتخاذل من الانقلاب في تركيا (مواقف الاتحاد الأوروبي من أي انقلاب في أي دولة إفريقية صغيرة يكون عادة أقوى من موقفه من الانقلاب في تركيا).

كما تجاهل الاتحاد الأوروبي، أو كان صوته خفيضاً، تجاه الحرب السعودية الإماراتية في اليمن، أو التدخل المصري الإماراتي في ليبيا، مقارنة بالحرب الإعلامية المقدسة التي أعلنها كثير من الأوروبيين إثر التدخل التركي في سوريا وليبيا، والذي جاء بعد سنوات من سحق حلفاء أنقرة في الدولتين بلا هوادة من قبل القوى المستبدة في المنطقة، رغم أن جزءاً من هؤلاء الحلفاء كان فصائل ظهرت ضمن الربيع العربي، وتشدد على رغبتها في الحرية والديمقراطية (التي يفترض أنها قيم أوروبية).

بل الموقف الأسوأ من الاتحاد الأوروبي يظهر في حالة ليبيا.

فبروكسل تركت قوات حكومة الوفاق فريسة لهجوم حفتر الذي حاصر طرابلس لنحو عام، بعدما سبق أن استغلت دماء هذه القوات للتخلص من خطر الإرهاب، مثلما حدث حينما طردت قوات الوفاق داعش من سرت، إضافة إلى ضبطها للهجرة القادمة من إفريقيا.

كما أن دعم الاتحاد الأوروبي للقوى الكردية في سوريا، ومحاولة شيطنة التدخل التركي ضدهم يتجاهل علاقة هذه القوى الكردية بحزب العمال الكردستاني الماركسي، المصنف إرهابياً في أغلب دول العالم (والذي كان فعلياً حليفاً للاتحاد السوفييتي ضد الناتو).

والأسوأ أن هذا الموقف يتجاهل حقيقة أن الأكراد الذين يمثلون أقلية في سوريا يسيطرون على مساحات شاسعة، أغلب سكانها من العرب السنة، في تكرار للمأساة التي أدت للثورة السورية، حتى بات سكان شرق سوريا يسمون المسلحين الأكراد “العلويين الجدد“.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى