تقارير وملفات إضافية

“الناتو ميّت، وآن لفرنسا الانسحاب منه”.. هل تحاول باريس إنشاء قوة عسكرية أوروبية بديلة لحلف شمال الأطلسي؟

يرى خبراء أن الانتقادات المتكررة من قِبل فرنسا لحلف شمال الأطلسي “ناتو”، في إطار التوتر القائم بين تركيا واليونان في شرقي البحر المتوسط، هي محاولة من باريس لتقويض عمل الحلف، بسبب اصطدام أجنداتها أكثر من مرة مع أجندة أعضاء آخرين في التحالف، وعدم انسياق كامل دول الأعضاء وراءها في مخططاتها حول المنطقة، وخصيصاً في خلافاتها مع تركيا حول عدة مسائل كسوريا وليبيا وشرق المتوسط.

كان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قد وصف سابقاً “ناتو” بأنه “ميّت دماغياً ويحتاج لإنعاش”، لأول مرة في أعقاب عملية “نبع السلام” التي أطلقتها القوات المسلحة التركية، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، ضد التنظيمات الكردية المسلحة في سوريا، والتي تصنفها أنقرة كإرهابية. وجدد ماكرون تلك الانتقادات، مع بدء أنقرة تقديم الدعم لحكومة الوفاق الوطنية الليبية، المعترف بها دولياً، بموجب اتفاقية مبرمة بينهما، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.

وقال ماكرون قد قال لمجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية، في ذلك الحين، إن حلف شمال الأطلسي في حالة “موت إكلينيكي”، مشيراً إلى الافتقار للتنسيق وعدم القدرة على التنبؤ بالسياسة الأمريكية، في ظل قيادة الرئيس دونالد ترامب، مبدياً تشككه كذلك في أسس التحالف التي قام عليها، وخاصة المادة الخامسة من معاهدة واشنطن المؤسسة للناتو، والتي تنص على أن “أي عدوان مسلح على طرف منها أو عدة أطراف في أوروبا أو أمريكا الشمالية يعتبر عدواناً عليها جميعاً”، على اعتبار أن تطبيق هذه المادة جرى مرة واحدة فقط منذ تأسيس الحلف، أي بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2011.

وفي يونيو/حزيران الماضي، جدّد ماكرون الذي يدعم الجنرال المتقاعد الليبي، خليفة حفتر، هجومه ضد حلف شمال الأطلسي، حين زعم أن البحرية التركية اعترضت سفينة فرنسية كانت تشارك في مهام لـ”ناتو” في البحر المتوسط. وطالب الرئيس الفرنسي حلف “ناتو” بالتصدّي لتركيا، بناء على مزاعم تحرش البحرية التركية بسفينة فرنسية.

لتعلن باريس في إثر ذلك الانسحاب مؤقتاً من عملية للأمن البحري لحلف شمال الأطلسي في المتوسط، بسبب خلافات مع تركيا بشأن ليبيا. وقالت وزارة الجيوش الفرنسية إنه “بسبب أجواء التوتر الشديد بين باريس وأنقرة، قررنا سحب وحداتنا مؤقتاً من عملية سي غارديان بانتظار تصحيح الوضع”.

وقالت الوزارة الفرنسية: “لا يبدو لنا أمراً سليماً الإبقاء على وسائل في عملية يفترض أن يكون من مهامها العديدة السيطرة على الحظر مع حلفاء لا يحترمونه”، في إشارة واضحة إلى تركيا، العضو مع فرنسا في حلف الناتو.

هذه الانتقادات من قِبل ماكرون لحلف “الناتو”، ومطالبته في الوقت ذاته بالتصدي لتركيا، عدّها خبراء أنها تؤكد حالة التخبّط والتناقض التي تشهدها فرنسا. وفي حديثه لوكالة لأناضول، قال إيلتار طوران، عضو الهيئة التدريسية بجامعة “إسطنبول بيلغه” التركية، إن “فرنسا ترغب في رؤية نفسها على أنها القوة العسكرية لأوروبا”. متسائلاً عن أهداف الاتهامات الفرنسية المتعلقة بشرقي المتوسط، ضد حلف شمال الأطلسي، عما إذا كانت محاولة للقضاء على “ناتو” أم لا؟. 

وأكد الأكاديمي التركي على أن الدول الأعضاء بـ”الناتو” لا يتبنّون سياسة التوتر التي تنتهجها فرنسا في شرقي المتوسط، بل يرغبون في تأمين التوافق بين تركيا واليونان. موضحاً أن “ناتو” لا يزال يتمتّع بمكانة ووظيفة هامة تتجسّد في يومنا الحالي بشكل مختلف عمّا كان عليه في الماضي، مستشهداً على ذلك بدور الحلف في دول البلطيق، ومواجهة التوسع الروسي، وأمن شرقي المتوسط وأفغانستان.

“فرنسا تعمل على تقويض حلف شمال الأطلسي، لعدم سماح الأخير لها باتباع سياسة “أنا المسؤول الوحيد عن أوروبا. وتحاول تحقيق هدفها هذا عبر مطالبة الناتو مؤخراً بالتصدي لتركيا في شرقي المتوسط.” يضيف توران: “وبالتالي، لا يسع فرنسا (في هذا الإطار) سوى أن تفتح فجوة بينها وبين الناتو”.

وفي يوليو/تموز الماضي، وصف النائب الفرنسي السابق في البرلمان الأوروبي أمريك شوبارد، حلف شمال الأطلسي، أنه “أصبح من بقايا عالم لم يعد موجوداً، عالم كان قائماً على المواجهة بين الاتحاد السوفييتي والغرب”. 

وقال شوبارد في مقابلة صحفية مع وكالة RT الروسية، إن “حدثاً تلو الآخر يمنحنا فرصاً جديدة لاستعادة سياستنا المستقلة، فبعد الحادث الذي وجهت فيه تركيا بعدوانية أسلحتها إلى سفينة حربية فرنسية، قبالة سواحل ليبيا، كان تضامن شركائنا في الناتو، وخاصة البريطانيين والأمريكيين صفراً. وما عدا بعض مظاهر الدعم من البرتغاليين مثلاً، لم نتلق أي شيء. حان الوقت للانسحاب من الناتو”.

مضيفاً أن “بعض أعضاء الناتو، مثل فرنسا وتركيا، يخوضون حرباً بالوكالة ضد بعضهم البعض، على سبيل المثال في ليبيا. فهناك نرى عضوين في الناتو يتحاربان في مسرح العمليات نفسه، هذا دليل واضح على أن هذا الحلف لم يعد له معنى”، حسب تعبيره.

وكان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو أكد مؤخراً أنّ الموقف الفرنسي المؤيد لليونان في شرق المتوسط وراءه “سعي فرنسي لإنشاء قوة عسكرية أوروبية تحجّم حلف شمال الأطلسي (الناتو)”. 

وفي مقابلة مع  قناة “إيه خبر” التركية، السبت 30 أغسطس/آب، لفت تشاووش أوغلو إلى أنّ الخسارة التي مُنيت بها فرنسا في سوريا وليبيا، جعلتها تطلق الاتهامات جزافاً بحق تركيا. وأضاف: “من خلال التصعيد تسعى فرنسا لإضعاف الناتو، وتأسيس قوة أوروبية”.

تسعى فرنسا المشحونة بالغضب وخيبة الأمل الناجمة عن خسارة حليفها خليفة حفتر في ليبيا أمام حكومة الوفاق، لإثارة الاتحاد الأوروبي والناتو على تركيا. والحقيقة أنه لا تأثير لفرنسا في مسألة إثارة الناتو على النحو الذي تريده، إذ تمتلك علاقات شائكة معه منذ فترة طويلة، ولكن بدون شك لها فاعلية بالغة داخل الاتحاد الأوروبي.

علاوة على ذلك، تتوفر لتركيا إمكانية التعبير والدفاع عن نفسها في مؤسسات الناتو الذي تمتلك عضوية فيه، ولكنها لا تملك مثل هذه الفرصة داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي الموجودة في بروكسل وستراسبورغ، وذلك لأنها ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي. وتُعتبر القرارات التي لا تحصى التي اتُّخذت ضد تركيا داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي في الأعوام الماضية مثالاً على ذلك.

يقول مصطفى ألقان، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة أنقرة حجي بيرم ولي، إن فرنسا تسعى مؤخراً لنيل دور قيادي داخل الاتحاد الأوروبي، وتضر عبر ممارساتها بالتضامن والتحالف المتمثّل في “ناتو” منذ 77 عاماً.

وأضاف أن الممارسات الفرنسية هذه، تظهر رغبة حقيقية لديها في تحقيق “الموت الدماغي” لـ”ناتو”. مشيراً إلى أن ماكرون يرغب في تأسيس جيش أوروبي يحلّ محل “ناتو”، في خطوة لجعل فرنسا قوية على الصعيد الدولي.

ووفق ألقان، فإن تصريحات ماكرون بأن “ناتو ميّت دماغياً”، وتحميله مسؤولية التوتر المتصاعد في شرقي المتوسط، بل دعوة الحلف للتصدي لتركيا في المنطقة، تحمل في طياتها أهدافاً لوضع الحلف في وضع صعب.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى