تقارير وملفات إضافية

الإساءة للنبي مباحة وانتقاد ماكرون ممنوع.. ماذا يخبرنا التاريخ عن كذب مقولة “فرنسا بلد الحريات”؟

في موقفين يثيران التساؤل بشأن صدق مقولة إن فرنسا بلد الحريات، رفض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً انتقاد مجلة “شارلي إيبدو”، بعد إعادة نشر رسوم مسيئة للنبي محمد، معتبراً أن ذلك “حرية تعبير”، في مقابل توبيخه الشديد لصحفي فرنسي نشر تفاصيل ما دار بينه وبين رئيس الكتلة النيابية لحزب الله اللبناني محمد رعد.

ماكرون قال إنه “ليس مضطراً للتعبير عن رأيه في هذا الأمر (إعادة نشر الرسوم المسيئة). لا مكان لرئيس فرنسا أبداً في إصدار حكم على اختيار تحرير صحفي أو غرفة تحرير؛ لأننا نتمتع بحرية الصحافة”.

كما اعتبر ماكرون أن هنالك في فرنسا “حرية في التجديف (ازدراء الدين) مرتبطة بحرية الضمير. أنا هنا لحماية كل هذه الحريات، يمكن في البلاد انتقاد الرئيس والمحافظين والتجديف”.

ولكن ما تجاهله ماكرون أنه في إطار الحرية يمكن أن يعبر عن رفضه للإساءة لرمز للمسلمين، باعتبار أنه تحريض على الكراهية، فلم يطلب أحد منه وقف الصحيفة، لكن مجرد التعبير عن رأيه في إطار الحريات، ورفض الكراهية.

ولكن حريات فرنسا ورئيسها ماكرون لم تطق مهارة صحفي قام بعمله، إذ أظهر مقطع الفيديو، نشرته شبكة “LCI” الفرنسية، الأربعاء 2 سبتمبر/أيلول 2020، الرئيس الفرنسي غاضباً ويتحدث بصوت مرتفع مع الصحفي جورج مالبرونو، قائلاً له: “ما فعلته (نشر فحوى كلام ماكرون مع رعد)، مع الأخذ في الاعتبار حساسية الموضوع، ومع كل ما تعرفه من تاريخ هذا البلد، هو عمل غير مسؤول”.

كما تابع الرئيس الفرنسي قائلاً: “هذا غير مسؤول لفرنسا، غير مسؤول بالنسبة للمعنيين هنا، وخطير من الناحية الأخلاقية.. لطالما دافعتُ عن الصحفيين، سأفعل ذلك دائماً، لكنني أتحدث إليك بصراحة، ما فعلتَه هو عمل خطير وغير مهني وتافه”.

المعروف أنه في العمل الصحفي لا يجب أن يلام صحفي لنشره خبراً مادام صحيحاً، كما أن تحديد خطورة مسألة للأمن القومي لدولة مسألة نسبية، وهي أداة رئيسية في الدول المستبدة لتقييد حرية الصحافة، الأهم أيهما أخطر من الناحية الأخلاقية حوار بين ماكرون وقيادي بحزب لبناني مثير للجدل، أم الإساءة لنبي يتبعه أكثر من مليار ونصف المليار  شخص بينهم ملايين الفرنسيين.

يظهر هذا الموقف تناقضات الحرية الفرنسية، والأكثر تناقضات النخب العربية وبصورة أقل الغربية التي تعتبر فرنسا بلد الحريات.

فهل فرنسا بلد الحريات حقاً وماذا يقول التاريخ عن هذه المقولة.

لن نتوقف في هذا التقرير كثيراً عند جرائم فرنسا الاستعمارية والتي وصلت لذروتها في الحالة الجزائرية، حيث حاولت باريس بينما كانت ترفع شعارات الحرية والعدالة والمساواة  إزالة هوية الجزائر الإسلامية العربية الأمازيغية، وهي عملية لم تقتصر على الإبادة الثقافية والفعلية، ولكنها أيضاً لم توفر للجزائريين المتفرنسين الذين قبلوا أكذوبة أن الجزائر جزء من فرنسا حقوق الحرية والمساواة، الأمر الذي جعل كثيراً منهم يتحول من الخيار الاندماجي إلى الانضمام لدعاة الاستقلال بعدما اكتشفوا أنه بعد التضحيات التي قدمها الجزائريون في حروب فرنسا لم ينالوا حتى حق أن يصبحوا مواطنين درجة ثانية.

ولكن في هذا التقرير سوف نختبر مقولة فرنسا بلد الحريات، داخلياً، إلى أي مدى طبقت باريس هذا المبدأ في الداخل الفرنسي.

بدأت مقولة فرنسا بلد الحريات تظهر مع الثورة الفرنسية، التي رفعت شعارات الحرية والمساواة التي انتشرت في أوروبا ومنعها للعالم.

ولكن على أرض الواقع، فإن الثورة الفرنسية لم تؤد رغم شعاراتها البراقة والتي غيرت التاريخ بالفعل، إلى قيام دولة ديمقراطية، بل أدت إلى تأسيس نظام فوضوي عنيف، قام باضطهاد الملكيين والمتدينين بطريقة أسوأ بكثير مما فعله النظام الملكي، وكانت أداته الرئيسية في الحكم هي المقصلة التي قال عنها الفرنسيون في ذلك الوقت “اذهب بأخيك إلى المقصلة قبل أن يذهب بك إليها”.

وبعد ذلك تولى نابليون بونابرت السلطة، ليقيم نظاماً إمبراطورياً، اتسم بالحداثة، ولكن في الحقيقة كان الرجل دكتاتوراً، والأغرب أنه كان معجباً بالأنظمة الملكية التي صاهرها، وسعى لخلق حاشية إمبراطورية على غرار الحاشيات الملكية التي لطالما حاربتها الثورة الفرنسية.

ولأكثر من قرن ونصف القرن كان الصراع بين اليمين الملكي وغير الملكي والثوريين سمة رئيسية لحكم فرنسا، ولم تكن الديمقراطية هي النظام السائد دوماً، الأهم أن هذه الديمقراطية  الفرنسية إن سادت كانت تعتبر دوماً تهميش الدين والتعدي على الحريات الدينية باسم الدولة، حقاً طبيعياً للدولة، كأن الحريات الدينية ليست من قائمة الحريات، وهي الأيديولوجيا التي مازالت سائدة في فرنسا وتطبق بالأكثر على المسلمين، مثلما نرى في الاعتداء على حرياتهم في الحجاب.

اعتبرت العلمانية الفرنسية أن استثناء الحريات الدينية أمر لا يشوه النموذج الفرنسي، والمفارقة أن هذا الموقف السلبي من الدين في فترات كثيرة في التاريخ الفرنسي قابله استغلال للكنيسة الكاثوليكية كأداة استعمارية في الخارج، كما يظهر في الحالة اللبنانية، حيث كان الحليف الأول لفرنسا العلمانية هو الكنيسة المارونية الكاثوليكية.

ولكن قمع الحريات في فرنسا ما بعد الثورة الفرنسية لم يقتصر على الحريات الدينية، على شهرة هذا القمع، ولكن القمع الأكبر كان للحريات اللغوية والثقافية لمكونات فرنسا الداخلية.

وما رأيناه في الجزائر من قمع للغة العربية، وما نراه حالياً من اضطهاد للرموز الثقافية العربية للمهاجرين المغاربة في فرنسا حالياً له جذوره التاريخية داخل فرنسا.

أولاً لكي نفهم تاريخ فرنسا الثقافي، فيجب معرفة إنه لم يكن هناك أمة فرنسية واحدة، واللغة الفرنسية يمكن اعتبارها لغة باريس ومحيطها بالأساس.

ففرنسا الحالية نشأت نتيجة توسع الملكية الفرنسية على مدار قرون من معقلها في باريس للمناطق المحيطة، والتي كانت كثير منها مناطق لها تاريخها الخاص، وأسرها الملكية، والأهم لغاتها الخاصة، والتي كان بعضها لغات لاتينية قريبة للفرنسية كقرابة الإيطالية والإسبانية لها، بينما بعضها لم يكن له علاقة بالفرنسية أو اللاتينية مثل لغة إقليم بريتاني التي تعود جذورها للجزر البريطانية.

وبينما لم تغير الملكية الفرنسية هوية هذه المناطق اللغوية والثقافية كثيراً، فإن الثورة الفرنسية بما حملته من فكرة تقديس الدولة المركزية القوية، قضت على هذا التنوع الثقافي الهائل بأساليب متنوعة بين الدمج الطوعي، والضغط الاجتماعي والأساليب القسرية.

وفي مجال اللغة تحديداً، كان قمع اللغات المحلية لصالح لهجة باريس المسماة الفرنسية سياسة رسمية فرنسية.

فلم تكن الملكية الفرنسية مهتمة بلغات الأقليات في فرنسا، التي تتحدثها الطبقات الدنيا، وطلبت استخدام الفرنسية في الأعمال الحكومية كجزء من سياستها للوحدة الوطنية.

وفي معظم الأوقات التي عملت فيها الفرنسية كلغة دولية مشتركة، لم تكن اللغة الأم لمعظم الفرنسيين، فقد وجد تقرير أجراه هنري جريجوار عام 1794 أنه من بين سكان البلاد البالغ عددهم 25 مليون نسمة، هناك ثلاثة ملايين فقط يتحدثون الفرنسية أصلاً، بينما كان بقية السكان يتحدثون بإحدى اللغات الإقليمية العديدة للبلاد، مثل الألزاسية أو البريتانية أو الأوكيتانية.

من خلال التوسع في التعليم العام، حيث كانت الفرنسية هي اللغة الوحيدة للتعليم، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل زيادة التحضر وظهور وسائل الاتصال الجماهيري، تم تبني الفرنسية تدريجياً من قبل جميع السكان تقريباً، وهي عملية لم تكتمل حتى القرن العشرين، ولكن بأساليب لا تختلف كثيراً عن أساليب الصين مع الإيغور، أي الإبادة الثقافية.

فخلال الثورة الفرنسية أدخلت الحكومة سياسات تفضل الفرنسية على اللغات الإقليمية، والتي أشارت إليها بازدراء باسم العامية. افترض الثوار أن القوى الرجعية والملكية تفضل اللغات الإقليمية لمحاولة إبقاء جماهير الفلاحين على علم محدود.

في عام 1794، قدم برتراند باريير “تقريره عن العامية” إلى لجنة السلامة العامة، حيث قال إن “الفيدرالية والخرافات تتكلم اللغة البريتونية” (إحدى اللغات الإقليمية).

منذ القرن التاسع عشر، في ظل الجمهوريات الثالثة والرابعة والخامسة، حاولت الحكومة القضاء على لغات الأقليات.

ففي مدارس الدولة، وفي محاولة لبناء ثقافة وطنية. قام المعلمون بإهانة الطلاب لاستخدامهم لغاتهم الإقليمية، وظلت مثل هذه الممارسات سائدة حتى أواخر الستينيات.

بدأ هذا في عام 1794 مع “تقرير هنري جريجوار حول ضرورة وسائل القضاء على العامية وتعميم استخدام اللغة الفرنسية”. عندما أصبح التعليم العام إلزامياً، تم تعليم الفرنسية فقط وعوقب استخدام أي لغة أخرى.

تم توضيح أهداف نظام المدارس العامة بشكل خاص للمدرسين الناطقين بالفرنسية الذين تم إرسالهم لتعليم الطلاب في مناطق مثل أوكيتانيا وبريتاني.

“تذكروا أيها السادة: لقد أعطيتم مناصبكم من أجل قتل لغة بريتون”، كانت هذه تعليمات أعطيت من مسؤول فرنسي للمعلمين في مقاطعة فينيستير الفرنسية (غرب بريتاني).

وكتب محافظ باس-بيرينيه في إقليم الباسك الفرنسي في عام 1846: “تهدف مدارسنا في إقليم الباسك تحديداً إلى استبدال لغة الباسك بالفرنسية…”. تم تعليم الطلاب أن لغات أجدادهم كانت أقل شأناً ويجب أن يخجلوا منها، عُرفت هذه العملية في المنطقة الناطقة بالأوكيتانية باسم (Vergonha).

هل تشعر بفرق كبير بين هذه السياسات وبين ما تقوم به الصين مع الإيغور حالياً؟

هذه السياسات مازالت مستمرة ولكن بشكل أقل فجاجة.

ففرنسا التي تقدم للعالم ومنهم الأوروبيون محاضرات في حقوق الإنسان تتجاهل السياسات الأوروبية في الاعتراف بالحقوق اللغوية للأقليات والأقاليم.

فقد وقعت فرنسا على الميثاق الأوروبي للغات الإقليمية أو لغات الأقليات، الذي يلزم الدول الموقعة بالاعتراف باللغات الإقليمية والأقليات، في عام 1999 ولكن لم يتم التصديق عليه. 

وفي 27 أكتوبر/تشرين الأول 2015، رفض مجلس الشيوخ الفرنسي مشروع قانون دستوري بالمصادقة على الميثاق.

والنتيجة أن لغة كانت واسعة النطاق كاللغة الأوكيتانية Occitan كانت تسود في نحو نصف فرنسا، ويتحدثها نسبة كبيرة من السكان تكاد تنقرض الآن، والمفارقة أنه حتى اليوم مع أن النسبة الأكبر من متحدثي هذه اللغة موجودون في فرنسا فإنها لا تتمتع بأي صفة رسمية، بينما تتمتع هذه اللغة بصفة رسمية في مناطق أوروبية لا يوجد بها سوى أعداد قليلة من المتكلمين بها مثل إقليم كاتالونيا الإسباني.

وعلى الرغم من أنها كانت لا تزال لغة يومية لمعظم سكان الريف في جنوب فرنسا حتى القرن العشرين، فإن الأوكيتانية (أو الأُكسِتانية) يتحدث بها الآن حوالي 100 ألف شخص في فرنسا وفقاً لتقديرات عام 2012.

والأوكيتانيون، نتيجة لأكثر من 200 عام من القمع والإذلال، نادراً ما يتحدثون لغتهم الخاصة في وجود الأجانب، سواء كانوا من خارج فرنسا أو من خارج أوكسيتانيا (أو أوكيتانيا)، ولا يزال العديد من كبار السن في المناطق الريفية يتحدثون بها، لكنهم يتحولون عموماً إلى الفرنسية عند التعامل مع الغرباء.

وتعتبر مأساة لغة بريتاني أكبر لأنها مختلفة عن الفرنسية، والإقليم الذي تتواجد فيه له تاريخه الخاص نسبياً، أدت سياسة التهميش والازداء الحكومية والطابع المركزي ووسائل الإعلام إلى أنه في أوائل القرن الحادي والعشرين، كان حوالي 200 ألف شخص فقط يتحدثون لغة بريتاني، وهو انخفاض كبير من أكثر من مليون في عام 1950. (لاحظ أن سكان الإقليم تضاعفوا في هذه الفترة) الغالبية من المتحدثين اليوم تزيد أعمارهم عن 60 عاماً، وتصنف اللغة البريتونية أو البريتانية حالياً على أنها لغة مهددة بالانقراض.

ويستمر الانخفاض السريع للغة بريتاني، مع عدم وجود متحدثين أحادي اللغة بها اليوم.

ولكن الاضطهاد اللغوي الفرنسي لم يقتصر على محاربة اللغة البريتانية فقط، بل وصل حتى لمنع تسمية الأبناء بأسماء بريتانية، ففي عام 1993، سُمح للوالدين أخيراً قانونياً بإعطاء أسماء أطفالهم البريتانية.

يثار هنا سؤال: ما هي الحريات التي تتغنى بها فرنسا والمعجبون، فإذا كانت الحريات الدينية مقيدة باسم العلمانية، وحرية المرء أن يتحدث لغته الأم مقيدة تحت اسم الوحدة الثقافية، وإذا كانت حريات الأمم في الاستقلال قمعت باسم التنوير ونشر الحضارة الفرنسية، وإذا كانت حرية التشكيك في الهولوكوست ممنوعة باسم عدم الإساءة لليهود، فما بقي من حريات في تاريخ فرنسا غير ازدراء الأديان أو التجديف كما يقول ماكرون.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى