تقارير وملفات إضافية

من الأطفال الصغار للنساء الجميلات.. لماذا يعمد كثير من السوريين إلى الانتحار بالقنابل اليدوية؟

كان يوماً صيفياً دافئاً لكن هناك ما تساقط من السماء.. ففي ذلك اليوم رأى الناس شيئاً غريباً يسقط عليهم من السماء، أسكت صوت ارتطامه بالأرض عن السماء أصوات العصافير وضحكات الأطفال.. انهمر جسد كقذيفة هاون، لترحل الصبية فرح، لتصبح ضحية جديدة لظاهرة انتحار السوريين.

«فرح اسم مستعار فلم يعرف اسمها أحد ولم يتعرف عليها أحد».

في ذلك الصباح الحزين المخضب بالدموع والحزن ما كان عقلها يعمل، ساعة قلبها وحدها كانت تدق بخفقات مجروحة، كانت ترتمي من عينيها ظلال الحزن العميق تحيطهما أشعة الخوف فتعطي لنظرتها عمقاً أكبر من سنها، كانت عيناها تقولان كم هو مخجلٌ ومُحزنٌ أن كثيرين من السوريين اليوم يحسدون الكلاب.

وضعت حاجياتها على طرف الجسر، صعدت الحافة.. وقفت لبرهة وقفزت.

قفزت دون أدنى تردد لتغيب إلى الأبد، هكذا دون أي مقدمات أو علامات، تناثر الدم هنا وهناك، كانت هناك فوق الجسر ثم لم تَعُدْ، قذفت بجسدها واختفت بسرعة.. هذا كل شيء!

فرح كانت مجرد طفلة عمرها لا يزيد عن 15 ربيعاً ارتطم جسدها بالأرض بعد أن ألقت بنفسها من فوق جسر الرئيس في العاصمة السورية دمشق، قاتلة ومقتولة في الوقت ذاته قتلت نفسها في مشهد يجسد قمة الفوضى والعبثية التي يعيشها السوريون.

باتت حالات الانتحار في سوريا كثيرة، فبمجرد مرورك على جسر الرئيس وسط دمشق، يُخيّل إليك أن كل من يمشي على قدميه سيلقي بنفسه من أعلى الجسر لإنهاء حياته، محدثاً مأساة جديدة أمام المئات من المشاهدين الذين يوثقونها بهواتفهم المحمولة ويتبادلونها على صفحات التواصل الاجتماعي.

فبعد أن قرعت الحرب في سوريا طبولها ازدادت نسب الانتحار بشكل كبير، فلم يعد خبر انتحار أحدهم في سوريا خبراً مُدهشاً أو استثنائياً، بل ربما أصبح من الأخبار العادية بحُكم انتشار هذه الظاهرة.

قادت الحرب في البلاد حالات الانتحار نحو مستويات استثنائية مقارنة مع ما كانت عليه قبل سنوات الحرب التي تعيشها سوريا منذ عام 2011، فبعدما كانت سوريا تُصنَف بين الدول التي تشهد أقل معدلات الانتحار في العالم حتى نهاية عام 2010، بدأت تتزايد حالات الانتحار حتى وصلت عام 2015 إلى ذروتها لتسجل 135 حالة.

وكان لمحافظة حلب، النصيب الأكبر من الحالات، لدوافع كثيرة، أبرزها الفقر، بحسب مدير عام الهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا الدكتور زاهر حجو.

الموت الذي لاحق فرح هو الموت عينه الذي لاحق «مجهولة الاسم والهوية» الطفلة التي أدمنت شم «الشعلة»( الغراء الذي يستخدم لأغراض اللصق وهو مادة كيميائية سامة).

فلا تزال ذاكرة الدمشقيين تحتفظ بصورة الفتاة التي وقفت بذات المكان «قرب جسر الرئيس» وسط دمشق قبل أن تلقي بنفسها تحت تأثير جرعة مخدرة في مجرى مياه نهر بردى.

لا يفرق الانتحار بين ضحاياه، فما بين شابة تلقي بنفسها من الطابق العاشر بمنطقة المزة في دمشق، وعجوز يحاول الانتحار برمي نفسه من إحدى غرف مستشفى المواساة بدون ملابس، وشابان ينتحران باستخدام قنبلة يدوية، وشاب يقتل فتاة رفضت الزواج منه وينتحر، وامرأة تنتحر بعد قتل أهلها الرجل الذي تحبه، وضحية على الأرض تسيل دماؤها لا تدري لمَا سالت، وأم ثكلى تضرب على صدرها من لوعتها ومُصابها.. كيف وصل الحال بالسوريين إلى هذه الحال؟

الحرب هي من صنعت هذه الحالة المأساوية.

إذ تشهد البلاد التي مزقتها الحرب المستمرة منذ ما يزيد على 8 سنوات ازدياداً في حالات الانتحار.. فهل بات السوريون يائسون لهذا الحد؟ وهل بات الانتحار شهقة اليائسين في سوريا؟.

حتى سنوات قليلة لم يكن مألوفاً أن تسمع في مجتمع شرقي كسوريا عن حالات انتحار، باستثناء حوادث متفرقة على مدار سنوات عدة، لكن الأمر لم يعد كذلك اليوم، فالمستشفيات السورية أصبحت تستقبل بانتظام جثثاً لمنتحرين أو أشخاصاً حاولوا الانتحار، في ظاهرة يبدو أنها تتزايد يوماً بعد آخر ومع أن الأمر يحاط بالكتمان غير أن الانتحار في سوريا بات خبراً يعلمه الجميع.

فلم يعد يمر أسبوع، دون أن تطالعنا عناوين أخبار نسمع بها عبر أثير المذياع أو نراها على شاشات التلفاز تتحدث عن انتحار شخص أو إنقاذ آخر في مدينة أو قرية ما.

وكأن أخبار الحرب والظلم لا تكفي السوريين، فباتت مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية لا تخلو من أخبار أشخاص ماتوا انتحاراً بعد أن قرروا إنهاء حياتهم بالقفز من فوق جسر أو بتناول السم أو بقطع شرايينهم أو بشنق أنفسهم أو بإطلاق الرصاص على رؤوسهم أو بتفجير قنبلة يدوية بأنفسهم، والقاسم المشترك بينهم جميعاً هو ظروف اجتماعية قاسية وصعبة قادتهم إلى موتهم.

السوريون الذي عاشوا لسنوات تحت النار إنسانيتهم تترنح ودمهم ينهمر في ظلِ انحطاط سياسي واجتماعي واقتصادي وحرب أهلية وقمع وإرهاب وقتل وسجونٍ ومُعتقلات وتصفيات سرية وطوائف وعشائر وجنرالاتٍ يتحكمون برقاب البشر.

كل شيء في سوريا مُباح لأنَ القانون مستباح، فالسوري أصبح خانعاً ومهزوماً ومُستلباً للحقوق ومُزعزع الروح.

فالليلة وكل ليلة وفي جميع الأوقات دماء السوريين مهدورة لا يعرفون متى وبأي أرضٍ يموتون لكنهم يعرفون أن الموت ينتظرهم.

يكفي أن نستمع لشاب تراكم عليه الهم فصرخ قبل انتحاره «إذا كنت لا أستطيع شراء الزي المدرسي لأطفالي، إذاً لا معنى لحياتي»، لتلخص رسالتهُ القليلة الكلمات الأوضاع الاقتصادية للمواطنين، والتي تزداد تدهوراً تلو تدهور.

فالشاب محمد.ش، «35 عاماً» قرر إنهاء حياته في يوليو/تموز الماضي بإلقاء نفسه من الدور الثامن لمنزله في مدينة دمشق، ما تسبب في إصابة والدته بانهيار عصبي، قرار الشاب جاء احتجاجاً على ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وتراكم الديون عليه بعد أن ضربت البطالة مئات الآلاف من الشباب.

صار الانتحار السوري أكبر من إشاعة، إذ ترِد أخبار الانتحار بين السوريين، تاركة إشارات استفهام كثيرة، وردود فعل متباينة بين التعاطف والاستهجان.. فقد أثارت حادثة انتحار امرأة سورية في مخيم الركبان على الحدود الأردنية، ضجة كبيرة في الأوساط السورية الشعبية وفي الإعلام وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي.

كانت الأم ذات الثمانية والعشرين عاماً قد أضرمت النار في خيمتها بسبب الجوع، وعجزها عن تأمين لقمة طعام لأبنائها الثلاثة لثلاثة أيام متتالية، حيث احترقت خيمتها بالكامل وتم نقلها إلى المشفى مع ابنها الرضيع وهما بحالة حرجة، كما أصيب ولداها الآخران بحروق أيضاً.

العديد من الحوادث الأخرى عرفت طريقها لأحاديث السوريين اليومية، مصورة وغير معلنة، المفارقة أنه في اليوم العالمي لمنع لانتحار شهدت حلب حالتي انتحار منفصلتين.

يقول الطب الشرعي في المدينة أن رجلاً غير متزوج في الـ ٤٥ من عمره وضع حداً لحياته عن طريق شنق نفسه بحبل في شقته بحي الفيض، حيث كان يعيش لوحده، في حين انتحرت السيدة «ن.س»، وهي أم لثلاثة أطفال في عقدها الثالث، في شقتها بحي ٦٠٦ في الحمدانية.

وصل قطار الانتحار محطة محافظة السويداء بجنوب البلاد التي سجلت خلال الفترة الماضية أعلى نسبة انتحار في التاريخ الحديث للمحافظة، نتيجة الظروف السائدة، والضغوط الكثيرة التي تعرضت لها خلال 8 سنوات، تنوعت حالات الانتحار في المحافظة بين مدنيين وعسكريين وموالين ومعارضين تتراوح أعمارهم بين 15 و52 عاماً.

وعلى الرغم من القصص المؤثرة التي تغلف غالبية حياة ضحايا الانتحار، إلا أن أكثر الحوادث التي أثارت فجع السورييين تلك التي جرت مطلع العام الحالي، وأبطالها يافعان اثنان في الـ 17 و18 من العمر، هما وائل نضال أيوب ورفيقه محمود كمال أبو حسون.

صرخ الشابان «سئمنا من الحياة، سامحونا، أحزناكم كثيراً، ظروف حياتنا تسوء يوماً بعد الآخر، نشعر بسوء شديد.. ليس لدينا الحق لنعيش» رسالة حزينة، نعى بها الشابان أنفسهما، قبل إقدامهما على الانتحار، حيث قررا بعد ليلة عامرة بالوداع، إنهاء حياتهما بواسطة القنابل بعد أن خلعا مسمار الأمان دون تردد في حديقة الفيحاء بالسويداء بعد أن تركا فيديو مصوراً لرفاقهما يطلبان منهما السماح ويؤكدان رغبتهما بالانتحار ويعلنان رحيلهما الأبدي إلى الأعلى نتيجة الظروف الاقتصادية القاسية، كان واضحاً من الفيديو تأثير مادة الحشيش أو نوع آخر من المخدرات عليهما.

السويداء: الشاب راغد سيف «20 عاماً» فجر نفسه بقنبلة يدوية بسبب عدم قدرته على الزواج نتيجة الفقر والحاجة فانتحر واختصر الوجع.

حماة: انتحار الشاب يزن كيوان في العقد الرابع من العمر ببلدة سلحب، بعد أن أفرغ 3 رصاصات من مسدسه في جسد الفتاة الشابة ساندي التي رفضت الزواج منه وأجهز على نفسه باستخدام المسدس ذاته بطلقة في الرأس.

اللاذقية: انتحار الشاب طارق بعدما قام برمي نفسه من الطابق العاشر لمشفى تشرين الجامعي في المدينة.

دمشق: انتحار شاب بعد قتله مدير وحدة الغاز في منطقة «نهر عيشة» جنوبي العاصمة إثر غلاء سعر أسطوانة الغاز.

حمص: الخمسيني محمد تمام جنيد ينتحر بإلقاء نفسه من شرفة منزله في حي المحطة.

تنتشر حوادث الانتحار في إدلب والأرياف الغربية لحلب أيضاً، إذ يلجأ البعض هناك لابتلاع «فورسيد الألمنيوم» أو ما يسمى بـ»حبة الغاز» المستخدمة لإبادة القوارض، وهو ما قامت به روان من منطقة «بنش التي اختارت الانتحار بعد أن جرفتها أمواج الخلاف مع زوجها.

المشكلة أن «حبوب الانتحار الرخيص تباع بكل يسر وسهولة في محلات المبيدات الزراعية».

حبوب السم هي بامتياز «الوسيلة الأكثر انتشاراً للانتحار في مناطق سيطرة المعارضة السورية» بسبب سهولة الحصول عليها، ورخص ثمنها، وفعاليتها السريعة في تفجير جميع الخلايا والشرايين، وتعطيل كافة أجهزة الجسم.

زلم يَسلم من آثار الحرب حتى من نثرتهم الريح في عراء المنافي.

فقد سُجلت العديد من حالات انتحار السوريين والسوريات في منافيهم الاختيارية والإجبارية، فالهاربون من سوريا كثير منهم من فئة الشباب، ممن سدت في وجوههم كل فرص النجاح وأسباب التمسك بالحياة.

لم يخطر على بال أحد مثلاً أن تقدم الناشطة السورية رزان طباخة على الانتحار، اختارت رزان أن تنهي حياتها بالسقوط من أعلى بناء في مدينة غازي عنتاب التركية، وبثت الحادثة مباشرة على صفحتها الشخصية على فيسبوك، كان ذلك صدمة لجميع المقربين منها.

تتنوع سرديات الانتحار السوري، فحالات الانتحار كثيرة ولا يمكن ذكرها جميعاً في تقرير واحد.

فكل منتحر خبر بالنسبة لوسائل الإعلام، تُتبَع أحياناً بتعليقات مثل «يا حرام» أو «عجهنم فوراً» ، كونهم خالفوا أمر الله وأهدروا حياة لا يملكونها بالأصل.

ولكنه في الواقع وراء كل منهم قصة مأساوية لم يعش آلامها سوى المنتحر وأهله المساكين.

لا توجد في سوريا إحصائيات رسمية منشورة حول عدد حالات أو محاولات الانتحار، وعادة يرافق محاولات الانتحار حالة من التكتم الشديد تصل حد الإنكار من قبل السلطة وذوي المنتحر، لعدة أسباب منها ضغوط العائلة خاصة لدى تسجيل حالات انتحار الإناث.

وتتحفظ الجهات الرسمية في سوريا كثيراً على نشر مثل تلك البيانات لأسباب مختلفة قد يكون أحدها عدم إثارة الفزع في المجتمع أو منع تصدير صورة أكثر سلبية عن أحوال المجتمع المتهالك في الأساس.

ولكن آخر الأرقام المتوفرة في سوريا تسجلها هيئة الطب الشرعي، التي أحصت حالات الانتحار في سوريا منذ بداية العام 2019 وحتى 2 يوليو/تموز الماضي بـ 59 حالة، 50% منها لنساء و17% لأطفال أحدهم طفل عمره 10 سنوات و33% لرجال، وفقاً للدكتور زهير حجو مدير هيئة الطب الشرعي في سوريا.

ومن المؤكد أن هذه الأرقام ارتفعت بعد أن تداولت عدد من الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي الكثير من الأخبار والتقارير عن حالات انتحار جديدة في سوريا.

وبحسب ما كشفه مدير عام الهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا الدكتور زاهر حجو، فإن محاولات الانتحار التي انتهت بالوفاة، تضمنت الانتحار بالشنق وهو الأكثر بواقع 20 حالة، والطلق الناري 13حالة، والسقوط من على مرتفع 8 حالات، واعتبر حجو أن تسجيل 11 حالة انتحار لقاصرين «مؤشر غير جيد».

ووفقاً لإحصاءات نشطاء ومنظمات حقوقية وإنسانية، لا يكاد يمر أسبوع من دون تسجيل حالة انتحار أو أكثر في إحدى المدن السورية، حيث تتصدر محافظة ريف دمشق نسب المقدمين على الانتحار في سوريا بـ14 حالة، تليها حمص 9 حالات ثم حلب 8 حالات ومثلها في طرطوس، أما في السويداء فتم تسجيل 5 حالات، في حين انتحر 4 في اللاذقية ومثلهم في درعا، وتتناقص النسبة تدريجياً لتسجل بمحافظة دمشق حالتين فقط.

يشكك الكثير من النشطاء والمنظمات الحقوقية بهذه الأرقام ويقولون إن حالات الانتحار قد تزيد عن ذلك بسبب انتشار الممارسات القمعية والتعذيب وغياب حرية التعبير في البلاد، بحسب منظمات دولية.

رئيس هيئة الطب الشرعي في سوريا يؤكد ما ذهب اليه النشطاء فيقول: إن الأرقام الحقيقية قد تكون 10 أضعاف ما يعلن عنه سنوياً، مضيفاً أن هناك حالات لا يتم التوجه بها إلى المستشفيات، أو الإبلاغ عنها، وليس بالضرورة أن تكون كل حالات الانتحار في البلاد مسجلة، فكثير من حالات الانتحار تسجل كوفيات وينتهي الأمر، ولا يتم البحث عن أسباب الانتحار أو دراسة الواقع بشكل يساهم في مواجهة هذا الخطر.

بسام حايك المدير العام لمشفى ابن خلدون للأمراض النفسية والعقلية في حلب كشف في وقت سابق عن إنقاذ 99 حالة انتحار من أصل 100 حالة أسبوعياً تصل الى المستشفى، مع وجود أطفال لا تتجاوز أعمارهم 7 سنوات يتحدثون عن الموت بشكل روتيني، ما قد يؤدي إلى الانتحار من دون وعي.

يتابع حايك بالقول: إن الأزمة التي عاشتها حلب ضاعفت من حالات الانتحار فيها بسبب زيادة نسبة الأمراض النفسية نحو ١٠ أضعاف عما كانت عليه قبل الحرب.

ووفقاً لتقص شمل 100 شخص كعينة عشوائية أنجزه عربي بوست، فإن 16% من الشريحة التي شملها البحث «15 سنة وما فوق» تفكر في الموت والخلاص من الحياة، سواء بالانتحار أو بالموت العادي.

في مناطق المعارضة يتحول انتحار البعض إلى حوادث عرضية، فعشرات حالات الانتحار تسجل على أنها حوادث تفادياً للحرج الاجتماعي، ناهيك عن أن أغلب الحالات يتم التكتم عليها من قِبل ذوي الضحايا خوفاً من العقاب الصارم من قِبل بعض الجهات الموجودة في تلك المناطق، وخاصة المتشددة منها، مع العلم أن القانون السوري لا يعاقب على جريمة الانتحار باعتبار أن المنتحر خسر نفسه بحسب المحامي جورج حنا في تصريحه لعربي بوست.

ولفت حنا إلى أن القانون العسكري يعاقب من يحاول الانتحار إذا كانت محاولة الانتحار بغية الإفلات من الخدمة العسكرية إذا أدى الانتحار إلى إلحاق أذى من شأنه إعفاء المُقدم عليه من الخدمة الإلزامية.

والمفارقة أن الإعلام السوري يبدو إزاء قصص الانتحار وكأنه يرش الموت بالسكر ولا يجد غضاضة في القول إن حالات الانتحار المسجلة في سوريا ما زالت منخفضة وفقاً للمعدل العالمي للانتحار، مقارناً ذلك بمثيلاتها في الدول الإسكندنافية الأكثر رفاهيةً وسعادة.

لكن، يتناسى هذا الإعلام الذي «اعتاد الكذب حتى في نشرات الجو» حسب وصف الكاتب السوري الراحل ممدوح عدوان أن الأوضاع الكارثية التي يعيشها السوريون وأزمات الغاز والخبز والكهرباء والماء والافتقار إلى أدنى مستويات الحياة البشرية، الأمر الذي دفع بأشد مؤيدي الحكومة في دمشق لإرسال رسائل احتجاج على هذه الأوضاع.

إن انتشار الفوضى والعنف الناجم من ظروف الحرب وفوضى السلاح المنتشر في كل بيت بسوريا، وظروف الحياة الصعبة وانعدام الخدمات وعدم الإحساس بقيمة الحياة أو جدواها، كل هذه الأسباب مجتمعة تؤدي بالشباب السوري إلى الشعور بالإحباط وفقدان الأمل في الحياة الحرة والكريمة، وبالتالي تدفع الشباب للبحث عن وسيلة للهروب، فيلجأ لتعاطي المخدرات للهروب من واقع مر يؤدي به في نهاية النفق المظلم إلى الانتحار.

فمن تداعيات الحرب في سوريا انتشار تجارة المخدرات، التي وصلت إلى أيدي اليافعين والشباب الصغار، والتي تفقدهم الوعي وتخرج المتعاطين عن نطاق السيطرة.

تبقى المخدرات العامل الحاسم وراء انتحار عدد كبير من السوريين.

لكن مَن روّج وأدخل ووزع هذه المخدرات وأغرى الناس فهي قصة أخرى.

إذ يبدو أن هدفها القضاء على أجيال من الشباب بشكل ممنهج، والحديث يطول عنهم وعن مموليهم ومَن يقف وراءهم.

ليست المخدرات وحدها هي السبب، فالانتحار يعد ظاهرة اجتماعية مرتبطة بعدة متغيرات، وقد ارتفعت نسب الانتحار أو الإقدام عليه بسوريا في المدة الأخيرة بسبب عدم قدرة الإنسان السوري على تحمل التغييرات الطارئة والمتسارعة على المشهد الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي، أو العيش وسط ما يعرف في علم النفس الاجتماعي بـ «مجتمع المخاطر»، الذي يجعل الفرد غير قادر على استيعاب ما يدور حوله من تعاقب متسارع للأحداث.

ظروف اقتصادية سيئة، وقمع مستمر، وأوضاع معيشية غير آدمية، وبطالة مرتفعة.. 4 أسباب كانت وراء قرار المئات من السوريين بمغادرة الحياة هرباً من جحيم الحرب.

تقول الباحثة الاجتماعية سهام محمد لـ «عربي بوست»: الظروف الاقتصادية تظل الدافع الرئيسي لتزايُد حالات الانتحار، مع عجز الدولة عن تأمين فرص عمل والاعتماد على القطاع الخاص الذي يفشل في توفير الوظائف.

بدوره أشار الطبيب النفسي جود عبدالله في حديثه لـ «عربي بوست» إلى أن الضغوط والإحباطات النفسية التي يعاني منها السوريون، سواء من هم تحت سيطرة الحكومة أو في مناطق المعارضة من أهم عوامل تفاقم ظاهرة الانتحار، وغالباً ما تكون مناطق الحروب والتوترات بؤراً لازدياد الانتحار في ظل ظروف الفقر والحاجة.

يكمل عبدالله حديثه بالقول: إن العامل الاقتصادي والرزوح تحت خط الفقر من أهم أسباب شيوع الانتحار، فراتب الموظف لدى الحكومة في دمشق لا يتجاوز الـ70 دولاراً، وقد لا يتجاوز الـ30 دولاراً أحياناً، رغم أن احتياجاته اللازمة للعيش بالمستوى المطلوب تتطلب راتباً لا يقل عن 600 دولار.

فالفقر والتهميش والبطالة وفقاً لعبدالله تؤدي إلى عجز الشباب عن إثبات ذاتهم وتحقيق كرامتهم، وهو ما يدفعهم إلى فكرة الانتحار والإقدام عليه.

وليس غريباً أن تصبح أرض المنتحرين، فقد سجّلت معدلات قياسية في كثير من المؤشرات الخطرة، حيث تعد من أخطر البلدان في العالم، وشعبها من أكثر الشعوب بؤساً، بحسب تقرير World Happiness Report 2019.

هذا بالإضافة إلى أن نسبة الفقر تصل إلى أكثر من 83% وفقاً لتقرير الأمم المتحدة 2019، في ظل تقاعس واضح وغير مبرَّر من الحكومات المتعاقبة التي أدارت الشأن السوري الداخلي.

تعترف هيئة الطب الشرعي في سوريا وفقاً لمديرها زاهر حجو، بأن أسباب الانتحار تعود للواقع المعيشي اقتصادياً واجتماعياً.

كما أن فقدان الأحبة والنكبات الاجتماعية التي طالت عوائل سورية تعد من أسباب الانتحار.

وفيما يتفق الكثير من المتخصصين على أن الحرب من أهم أسباب انتحار مراهقين في مناطق الصراع، لم يُشر المسؤول السوري الحكومي إلى ذلك في حديثه، معتبراً أن أحد أبرز أسباب انتحار المراهقين في سوريا هو «تخلي الحبيبة عن المراهق»، مضيفاً أن من الأسباب أيضاً وفاة شخص من الأسرة، وتعرُّض المراهق للتنمّر من أشخاص لا يستطيع أن يتغلب عليهم.

وفي محاولة للتركيز على الأسباب الاجتماعية دون العسكرية والسياسية يقول المسؤول الحكومي زاهر حجو، إن من أسباب الانتحار عند المراهقين أيضاً طلاق الأبوين، وسوء الأداء في الامتحانات.

وفي ظلّ الحرب القاتلة التي عصفت بسوريا ترى هيئة الطب الشرعي في سوريا أن عدد حالات الانتحار الأخيرة ليس كبيراً، في دولة يصل عدد سكانها إلى 24 مليون نسمة «هُجر وهاجر ثلثهم بسبب الحرب»، وهو ما تتفق معه الباحثة الاجتماعية سهام محمد، التي قالت لعربي بوست إن التضخيم الإعلامي أخرج الحوادث من الصورة الفردية ليجعلها ظاهرة.

وأضافت أنه عند إعطاء مساحة لمثل تلك الحالات الفردية وتكرار سردها والحديث عنها، فإنها بذلك تطغى على الموضوعات الأكثر حرجاً وأهمية، مشيرة إلى أن المجتمع السوري ينظر بفزع وقلق لمثل تلك الأمور التي يعتبرها دخيلة عليه.

يختلف مع هذا الأمر الباحث في علم الاجتماع السياسي علي حسن، الذي يؤكد في حديثه مع عربي بوست أن نسب حوادث الانتحار في سوريا لافتة بالفعل.

ويرى أن الأزمة الحقيقية في مسألة الانتحار هي تسييس الظاهرة، ويطالب بأن تقوم الدولة بدراسة أسباب تزايُد معدلات الانتحار، وهو أمر يدخل في نطاق اختصاص كل من الجهات الأمنية التي يجب أن تدرس ما إذا كانت هذه الحوادث نوعاً من الاحتجاج السياسي أم لا، وكذلك المؤسسات البحثية الاجتماعية والجنائية والمؤسسات الدينية، لتعرف ما إذا كان هذا الأمر ناتجاً عن عدم الثقة في الدين، خصوصاً مع اهتزاز صورة كثير من رجال الدين مؤخراً في نظر الناس.

مدير عام الهيئة العامة للطب الشرعي زاهر حجو يرتب طرق الانتحار في سوريا فيقول: يأتي الطلق الناري أولاً، تليه السموم، ثم الشنق، أما الجديد مؤخراً فهو تطور أساليب الانتحار لدى النساء اللواتي ينتحرن عادة عن طريق العقاقير والأدوية، لكن بعضهن لجأن للشنق، كما وردت تفاصيل عن انتحار نساء بطلق ناري، وهو مؤشر خطير يدل على إمكانية اللجوء لأسلوب عنيف، يصبح أكثر سهولة مع انتشار السلاح في كل بيت بسوريا، ولاسيما أن البعض لا يستطيعون توفير جو أو طريقة مناسبة للانتحار، كالجرعة المطلوبة من السموم، أو كيفية تحضير المشنقة، لكن مجرد توفر السلاح يتيح لهم قتل أنفسهم أو قتل الآخرين.

تخلّى المنتحرون في سوريا، ولاسيما الشباب عن الطرق التقليدية في الانتحار، حيث تحوّلوا بالمشهد من داخل المنازل أو الموت بتناول السم أو الشنق في صمت إلى الفضاء المفتوح، لإثارة ضجة وتأليب الرأي العام على سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، التي دفعت بهم إلى الإقدام على هذه الخطوة، تاركين رسائل وفيديوهات توثق لحظات رحيلهم.

يعتبر خبراء علم الاجتماع أن الشباب باتوا يفضلون أسرع طرق الموت، وفي ذهنهم أن أفضلها وأسرعها هو الرصاص، أو القفز من أعلى العقارات، أو تفجير أنفسهم بالقنابل مع قسوتها.

وربما في محاولة لتوجيه رسائل بأن المنتحر ضحية للعجز عن المواجهة وفريسة للظروف المجتمعية والاقتصادية وربما السياسية.

يقول الباحث في الاجتماع السياسي علي حسن لعربي بوست: إن المنتحر في سوريا بات يرى أن الرصاصة أو تفجير نفسه بقنبلة يدوية وسيلة أفضل وأسرع للتخلص من الحياة، ويصاحبها حالة من الإشهار للموت، فبدلاً من أن يقتل الشخص نفسه في صمت فهو يحمل المجتمع كله مسؤولية ما آل إليه بإشهار موته، مدركاً بذلك أن واقعة موته ستتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي، لتصل إلى ملايين الناس، وكأنه نوع من الاحتجاج على هذا المجتمع، أو تعرية لعورات تلك السلطة القاسية التي دفعت به إلى التخلص من حياته.

يتابع: إن تصوير مشهد الانتحار وإرساله للأصدقاء، ومن ثم تداوله عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يتضمن رسائل للمجتمع، تتضمن شقاً عدوانياً انتقامياً من المنتحر، لتحريك مشاعر الذنب في المشاهدين، كما لو كان يقول «أنتم السبب في الحالة التي وصلت إليها، ويتضمن نوعاً من التحريض على تكرار ارتكاب ذلك الفعل مجدداً، بما يشي بأن الأمر قد يصبح ظاهرة».

في حالات الانتحار برصاصة في الرأس أو بتفجير النفس بقنبلة يدوية، تبدو فرص الإنقاذ معدومة على عكس الوسائل التقليدية، ففي حالات تناول السم يمكن تدارك الأمر وإنقاذ الضحية بإجراء غسيل للمعدة في المستشفيات، لكن بتفجير قنبلة لا سبيل للخلاص.

يؤكد الباحث علي حسن، لعربي بوست، أن منتحري القنابل اليدوية يعرفون جيداً أنه لا سبيل إلى العودة، ولن يتخذوا ذلك السلوك إلا بوصولهم إلى أقصى درجات الضغط الاجتماعي، ومعاناتهم من اعتلال نفسي سابق، فالمجتمع كله يتعرض لضغوط حياتية، لكن يظل الفارق هو البنية النفسية التي تحدث فارقاً بين من يستطيعون التحمل، ومن يعتبرون الموت خلاصاً.

يحاول البعض تحميل الانتحار السوري بالقنابل اليدوية أمام كاميرا الهاتف رسائل سياسية، على شاكلة انتحار محمد البوعزيزي، الشاب التونسي الذي انتحر بحرق نفسه، مفجراً حراكات شعبية في خمس دول عربية، بينها سوريا، على شاكلة الاحتجاج على تراجع حرية التعبير ومساحة ممارسة الاحتجاج السلمي ضد صعوبة الحياة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى