تقارير وملفات إضافية

صفقة لن تمر.. مقاومة الفلسطينيين العنيدة طوال 100 عام أفشلت إقامة الدولة اليهودية، وخطة ترامب ستزيد الصراع

في عام 1919، كتب وزير الخارجية آرثر جيمس بلفور إنّ الحكومة البريطانية في فلسطين «لم تقترح حتى مسار التشاور مع رغبات السكان الحاليين للبلاد». وأردف أنّ القوى العظمى كانت ملتزمةً تُجاه الصهيونية، وأنّ «الصهيونية سواءً كانت صحيحة أو خاطئة، خيِّرة أو شريرة، مُتجذّرةٌ في التقاليد القديمة والاحتياجات الحاضرة والآمال المستقبلية التي لها أهميةٌ أعمق من رغبات وتحيّزات الـ700 ألف عربي الذين يقطنون هذه الأرض القديمة الآن».

وفي عام 2017، اعترف الرئيس دونالد ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل، قائلاً: «لقد أنهينا المفاوضات بشأن القدس، حتى لا نضطر إلى الحديث عنها بعد الآن». وقال ترامب لبنيامين نتنياهو: «لقد ربحت جولة، ولكنّك ستتخلّى عن بعض الجولات في وقتٍ لاحق من المفاوضات -إن حدثت على الإطلاق».

تقول صحيفة The Guardian البريطانية في تقرير مطول كتبه رشيد الخالدي هو مؤرخ فلسطيني أمريكي. وأستاذ الدراسات العربية بجامعة كولومبيا وبهذا، جرى التخلُّص من مركز تاريخ وهوية وثقافة وعبادة الفلسطينيين قسراً، دون التشاور معهم حتى. وبعدها، في يناير/كانون الثاني عام 2020، كشفت إدارة ترامب أخيراً عن «الصفقة» المنتظرة -دون استشارة الفلسطينيين مرةً أخرى، وهم الطرف الأكثر تأثُّراً بشكلٍ مُباشر.

وعلى مدار العقد المُنصرم، حاولت القوى العُظمى التصرُّف رغماً عن الفلسطينيين، أو تجاهلتهم، أو تحدّثت بلسانهم، أو دون اعتبارٍ لهم، أو تظاهرت بعدم وجودهم من الأساس. 

ولكن أمام الاحتمالات الصعبة التي واجهتهم، أظهر الفلسطينيون قدرةً عنيدة على مقاومة تلك الجهود للقضاء عليهم سياسياً وتشتيتهم في أنحاء الأرض. ولا شكّ أنّه بعد مضي أكثر من 120 عاماً على المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، وأكثر من 70 عاماً على إنشاء إسرائيل، لم يعُد من المفترض بالشعب الفلسطيني -الذي لم يُمثَّل في كلتا المناسبتين- أن يُشكِّل أيّ نوعٍ من الوجود الوطني. إذ كان من المُقدّر أن تُقام دولةٌ يهودية في مكانهم، دون جدالٍ من المجتمع الأصلي الذي ستحل محله.

ولكن الدولة اليهودية اليوم صارت متنازعاً عليها بقدر ما كانت في الماضي -دولياً على الأقل-، رغم كل قوتها وأسلحتها النووية وتحالفها مع الولايات المتحدة. إذ تُعَدُّ مقاومة الفلسطينيين، ومثابرتهم، وتحدّيهم لطموحات إسرائيل من بين أكثر الظواهر إثارةً للدهشة في العصر الحالي.

وفي ذكرى مرور 100 عامٍ على الحرب على فلسطين، واجه الفلسطينيون ظروفاً أكثر رعباً من أيّ وقتٍ مضى منذ عام 1917 -حين صدر وعد بلفور من الحكومة البريطانية ليُعلن دعمها لإقامة وطنٍ قوميٍ لليهود في فلسطين. وبانتخابه رئيساً، سعى ترامب إلى ما وصفها بـ «صفقة القرن»، والتي استهدفت الوصول إلى حلٍ نهائي للصراع. وتضمّن إتمام الصفقة حتى الآن الاستغناء عن عقودٍ من السياسات الأمريكية الأساسية، والاستعانة بإسرائيل في التخطيط الاستراتيجي، وصب احتقارهم على الفلسطينيين. وللأسف، تحدّث سفير ترامب إلى إسرائيل ديفيد فريدمان (المُحامي الذي أشهر إفلاس ترامب والداعم المادي القديم لحركة الاستيطان اليهودي) عن «الاحتلال المزعوم»، وطالب وزارة الخارجية بالتوقّف عن استخدام هذا المصطلح.

وخلال إحدى المُقابلات، أعلن أنّ إسرائيل لها «الحق في ضم جزءٍ من الضفة الغربية، وإن كان من المستبعد ضمّها بالكامل». وأعلن جيسون غرينبلات، مبعوث المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية الذي كان مُحامي ترامب العقاري ومن المُتبرعين لقضايا اليمين الإسرائيلي، أنّ مستوطنات الضفة الغربية «ليست عقبةً في طريق السلام». ورفض استخدام مصطلح «الاحتلال» خلال اجتماعٍ مع مبعوثي الاتحاد الأوروبي، وروّج لوجهة نظر فريدمان المُتعلّقة بضم الضفة الغربية.

وسرعان ما تبنّت الإدارة الجديدة نهجاً «مقلوباً» تدخل بموجبه ثلاث ملكياتٍ خليجية عربية سنية، السعودية والإمارات والبحرين في تحالفٍ فعلي مع إسرائيل من أجل الوقوف معاً في وجه إيران.

 يقول الخالدي وكان نِتاج هذا الترتيب هو أنّ هذه الملكيات والأنظمة العربية الأخرى المتحالفة مع الولايات المتحدة تشجّعت لتضغط على الفلسطينيين من أجل قبول المواقف الإسرائيلية المُتشدّدة التي ستقتل قضيتهم -أو تبدو مُصاغةً لهذا الغرض على الأقل. ونُسِّقَت هذه المبادرة بتعاونٍ وثيق مع تلك الأنظمة من خلال وساطة المبعوث الرئاسي الاستثنائي جاريد كوشنر، صهر ترامب وأحد أقطاب العقارات والصهيوني المُتحمّس الذي تبرّعت عائلته لصالح المستوطنات اليهودية.

ودفع كوشنر وغرينبلات وفريدمان علناً بمبادرة تنميةٍ اقتصادية -في الأصل- للضفة الغربية وقطاع غزة، بالتواطؤ مع شركائهم الخليجيين، خلال مؤتمرٍ عُقِد في يونيو/حزيران عام 2019، بالبحرين وغيرها من المناسبات. واستهدفت المبادرة العمل في ظل الأوضاع القائمة تحت السيطرة الإسرائيلية الفعلية. 

وشكّك كوشنر في جدوى الحكم الذاتي المستقل للفلسطينيين، قائلاً: «سننظر في هذا الأمر». واستعان بالمعجم الاستعماري الكلاسيكي مُضيفاً: «نأمل في أن يصيروا قادرين على حُكم أنفسهم بمرور الوقت». 

وكل ما يستحقه الفلسطينيون من وجهة نظر كوشنر هو «فرصةٌ لعيش حياةٍ أفضل.. وفرصة لتسديد ديونهم العقارية». وفي ظل الحل الذي يُفترض أن يكون اقتصادياً؛ أظهر هذا الثلاثي جهلاً واضحاً بالإجماع القوي والمُتخصص حول أنّ الاقتصاد الفلسطيني اختنق في المقام الأول بسبب التدخّلات المُمنهجة لاحتلال الجيش الإسرائيلي، والذي تستهدف خطتُهم الإبقاء عليه. وتسبّبت إدارة ترامب في تفاقم هذا الاختناق الاقتصادي حين قطعت المعونة الأمريكية عن السلطة الفلسطينية، ووكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (أونروا). وواصلت الولايات المتحدة دعمها للحصار الإسرائيلي على غزة، بمعاونة مصر، رغم آثارها الكارثية على 1.8 مليون شخص.

إذ تتضمّن إنشاء كيانٍ غير مُجاور وغير سيادي دون إزالة أيٍ من المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية القائمة، والتي سيُعترف بها و»تُقنّن» وتُضم إلى إسرائيل هي ووادي نهر الأردن. وسيكون هذا الكيان منزوع السلاح وتحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية بالكامل، لذا فهي دولةٌ بالاسم فقط. كما من شأنها أن تُلغي السيادة والسيطرة على القدس. وستتواجد في قطاع غزة، وتضم عشرات الأراضي المُتفرقة التي تُمثّل 40% من مساحة الضفة الغربية، مع بعض أجزاء صحراء النقب القاحلة. 

ولن يُسمح لأي لاجئين بالعودة إلى إسرائيل، كما ستكون عودتهم إلى «الدولة» الفلسطينية «محدودةً بحسب الترتيبات الأمنية المُتّفق عليها»، أي ستكون خاضعةً للسيطرة الإسرائيلية. في حين سيُجبر الباقون على البقاء في أماكنهم. وربما يحصل اللاجئون على «بعض التعويضات»، في حين جرى ذكر «تعويضات فقدان أصول» اللاجئين اليهوديين من البلاد العربية بوضوح. ومن الواضح أنّ أصول الفلسطينيين المسروقة، ومن بينها غالبية أراضي فلسطين التي كانت -ولا تزال قانونياً- مملوكةً لهم، ليست بنفس أهمية أصول اللاجئين اليهود من الدول العربية في عيون ترامب وفريقه. وهذا واحدٌ من المؤشرات العديدة على أنّ ترامب وغيره يرون أنّ الفلسطينيين على مستوى إنساني مُختلف، وأقل شأناً، وليست لهم نفس الحقوق والامتيازات التي يتمتّع بها الإسرائيليون.

وخير دليلٍ على هذا النهج هو اعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل في ديسمبر/كانون الأول عام 2017، وما تبعه من نقل السفارة الأمريكية إلى هناك. ومثّلت هذه الخطوة خروجاً ثورياً عن السياسة الأمريكية المستمرة منذ أكثر من 70 عاماً، منذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الذي مُرِّرَ بواسطة الأمم المتحدة عم 1974، ودعا إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية. وبموجب ذلك القرار، كانت وضعية المدينة المقدسة ستظل غير محددة في انتظار حل القضية الفلسطينية نهائياً بموافقةٍ مُشتركة من الطرفين. وفي أعقاب هذه الإهانة، جاء إعلان ترامب ليعترف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان المحتلة، في خروجٍ راديكالي آخر عن سياسة الولايات المتحدة.

ومن خلال هذين الإعلانين، أخرجت الإدارة بعض القضايا من دائرة المفاوضات، ومنها قضية القدس التي تُعتبر إسرائيل مُلزمةً بالتفاوض عليها مع الفلسطينيين بموجب المعاهدات. وإلى جانب تحويل مسار عقودٍ من السياسة الأمريكية؛ أهانت إدارة ترامب كياناً كاملاً من القوانين والإجماعات الدولية، وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والرأي العام العالمي، وحقوق الفلسطينيين بالطبع. وتقبّل ترامب الموقف الإسرائيلي بالكامل في قضية القدس الحساسة، وفعل ذلك دون مقابلٍ من جانب إسرائيل، ودون اعتراف بالمطالب الفلسطينية لاعتبار المدينة عاصمةً لفلسطين. والأمر الذي يحمل القدر نفسه من الأهمية هو أنّ ترامب وافق ضمنياً على تعريف إسرائيل الفضفاض لـ «القدس المُوحّدة» التي تشمل المناطق العربية الواسعة داخل وحول المدينة، والتي استولت عليها إسرائيل منذ حرب الأيام الستة عام 1967. ورغم أنّ الإدارة أوضحت أنّ الحدود الفعلية سيجري التفاوض عليها، لكن إعلانها يعني أنّ المفاوضات قد انتهت فعلياً.

ومن خلال هذا الموقف وغيره من المواقف، كشف البيت الأبيض عن معالم المُقترح الأمريكي-الإسرائيلي: إذ تجنّب بوضوح الترويج لحل الدولتين الحقيقي، وأنهى عمل البعثة الدبلوماسية الفلسطينية في واشنطن والقنصلية الأمريكية في القدس الشرقية التي أدّت دور سفارةٍ غير رسمي إلى الفلسطينيين، وزعم كذلك أنّ أحفاد الفلسطينيين الذين أُعلِنوا لاجئين في عام 1948 ليسوا لاجئين في حد ذاتهم -بعكس وضعية كافة اللاجئين الآخرين منذ الحرب العالمية الثانية. وأخيراً، مهّد ترامب الطريق أمام ضمّ ما تبقى من أجزاءٍ في الضفة الغربية المحتلة التي قد ترغب إسرائيل في ابتلاعها، حين تبنّى ضمّ إسرائيل للقدس وهضبة الجولان.

وفي مقابل هذه الانتقاصات الصارخة من الحقوق الفلسطينية، سيُعرض على الفلسطينيين المال الذي ستدفعه ملكيات الخليج. وصار هذا العرض رسمياً في مؤتمر يونيو/حزيران عام 2019 بالبحرين، والذي رفضت السلطة الفلسطينية حضوره. وفي الواقع، كان مقترح كوشنر بشراء المعارضة الفلسطينية للخطة، التي تُلغي التسوية السياسية المُتفاوض عليها، في الواقع مُجرّد نسخةٍ مُعدّلة من الخطط المُشابهة من أجل «السلام الاقتصادي» مقابل الحقوق -والتي روّج لها القادة الإسرائيليون بدءاً من شيمون بيريز ووصولاً إلى نتنياهو. وبالنسبة لنتنياهو وغيره من المُؤيّدين شديدي القومية للمستوطنين المُتشدّدين، فإنّ العائد الاقتصادي الحلو للمشروع المُرّ الذي يُفترض بالفلسطينيين ابتلاعه صار أمراً ضرورياً في نهجهم الصريح لضم الأراضي.

ولا شكّ أنّ الأمر الصادم أكثر من غيره بشأن سياسة البيت الأبيض في الشرق الأوسط هو أنّها أُوكِلَت بالكامل إلى نتنياهو وحلفائه في إسرائيل والولايات المتحدة. لذا بدت مبادراتها وكأنّها مُعدّة مُسبقاً من جانب مستودع أفكار اليمين الإسرائيلي، مثل: نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بضم الجولان، والتخلّي عن قضية اللاجئين الفلسطينيين، ومحاولة تصفية وكالة الأونروا، والانسحاب من الاتفاق النووي الذي وقّعه أوباما مع إيران. ولم يتبقَّ سوى القليل من البنود على قائمة أمنيات نتنياهو: ضمُّ غالبية أجزاء الضفة الغربية، ورفض الولايات المتحدة إقامة دولةٍ فلسطينية ذات سيادة رسمياً، وتثبيت أقدام قيادةٍ فلسطينية بلا أنياب -وهي حزمةٌ تهدف بأكملها لإجبار الفلسطينيين على قبول فكرة أنّهم الشعب المهزوم.

وليست تلك الأمور جديدةً على الإطلاق، بالنظر إلى الممارسات الأمريكية السابقة. لكن عشيرة ترامب تخلّوا حتى عن مُجرّد التظاهر بعدم التحيُّز. ومن خلال هذه الخطة، لم تعُد الولايات المتحدة «مُحامي إسرائيل»، بل صارت بدلاً من ذلك اللسان الناطق باسم أكثر الحكومات تشدُّداً في تاريخ إسرائيل، لتقترح التفاوض مباشرةً مع الفلسطينيين نيابةً عن إسرائيل، وبمساعدة أقرب حلفائها (العرب). 

وربما كان البيت الأبيض يسعى لأمرٍ آخر: هو وضع مسودة مقترحات مُؤيّدة لإسرائيل بشكلٍ مُهين، مما سيدفع أشد الفلسطينيين خضوعاً لرفضها. ومن خلال هذا التكتيك، استطاعت الحكومة الإسرائيلية رسم الفلسطينيين في صورة الرافضين، وواصلت تجنُّب التفاوض معهم، مع مواصلة الوضع القائم من الزحف لضم الأراضي، وتوسيع الاستعمار والتمييز القانوني. وفي كلتا الحالتين، سنخرج بالنتيجة نفسها: أُخطِرَ الفلسطينيون بأنّ فكرة المستقبل المُستقل على أرض وطنهم قد تلاشت، وأنّ المساعي الاستعمارية الإسرائيلية لها الحرية في تشكيل فلسطين حسب أهوائها.

وهذا هو الاستنتاج الذي يرفضه غالبية العالم، ولا شكّ أنّه سيُقابل بالمقاومة محلياً وعالمياً. كما أنّه يتعارض مع كل مبادئ الحرية، والعدالة، والمساواة التي يُفترض بالولايات المتحدة أن تُدافع عنها، فضلاً عن أنّ القرار الذي سيُفرض بناءً على شروطٍ إسرائيلية قاسية سيُؤدي حتمياً إلى المزيد من الصراع وانعدام الأمن لكافة الأطراف المعنية. ولكنّه يُقدّم فرصاً بالنسبة للفلسطينيين رغم ذلك.

ويرى الخالدي أن الاستراتيجيات الحالية لكلا الفصيلين السياسيين الفلسطينيين الرئيسيين (فتح وحماس) لم تتوصل إلى شيء، كما يتضح من سرعة السيطرة الإسرائيلية على فلسطين بالكامل. لا استراتيجية الاعتماد على التوسط الأمريكي في مفاوضات غير مثمرة التي اقتصرت عليها التحركات الدبلوماسية حصراً في عهد عباس (تولى محمود عباس رئاسة فلسطين منذ 2005) ذات جدوى، ولا الاستراتيجية الرمزية للمقاومة المسلحة حققت أهدافاً وطنية فلسطينية على مر العقود الماضية. 

وليس لدى الفلسطينيين أي توقعات من الأنظمة العربية مثل مصر والأردن، اللذين لا يخجلان اليوم من توقيع اتفاقيات غاز ضخمة مع إسرائيل، أو من السعودية والإمارات، اللتين تشتريان أسلحة وأنظمة دفاع إسرائيلية من خلال وسيط أمريكي يُخفي أصول تلك الأسلحة والأنظمة.

ويرى الخالدي أن هذه المعطيات تستلزم من الفلسطينيين إعادة تقييم أساليبهم بمنتهى الدقة، وتحديد أهدافهم الوطنية؛ هل هي إنهاء الاحتلال واستعادة الأراضي الفلسطينية بالكامل، أم تأسيس دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على مساحة 22% المتبقية من دولة «الانتداب البريطاني على فلسطين»، الكيان الجيوسياسي الذي تأسس في 1920 حتى إعلان دولة إسرائيل عام 1948. 

هل تتضمن الأهداف الوطنية عودة الفلسطينيين الذين يعيشون في المنفى إلى موطن أجدادهم، أم إنشاء دولة ديمقراطية ثنائية السيادة على كامل الأراضي الفلسطينية بحقوق متساوية للجميع، أم الجمع بين بعض الخيارات السابق ذكرها. 

لا يمكن للجانب الفلسطيني، الأضعف في هذا الصراع، تحمّل كلفة أن يظل مقسمَّاً. ولكن قبل تحقيق الوحدة، يجب إعادة تحديد الأهداف والوصول إلى إجماع وطني جديد عليها.

من بين التغييرات الرئيسية المطلوبة الاعتراف بأن الاستراتيجية الدبلوماسية التي تبنتها منظمة التحرير الفلسطينية منذ ثمانينيات القرن الماضي كانت معيبة بشكل هائل؛ الولايات المتحدة لم ولن تكون وسيطاً أو طرفاً محايداً. لطالما عارضت الولايات المتحدة التطلعات الوطنية الفلسطينية والتزمت رسمياً بدعم مواقف الحكومة الإسرائيلية على حساب فلسطين. يجب على الحركة الوطنية الفلسطينية إدراك الطبيعة الحقيقية للموقف الأمريكي وتتخذ الإجراءات السياسية والإعلامية الأساسية اللازمة لنشر قضيتها داخل الولايات المتحدة، كما فعلت الحرة الصهيونية على مدار أكثر من قرن كامل. ولن تستغرق تلك الاستراتيجية أجيالاً حتى تؤتي ثمارها، نظراً للتحولات الهائلة الحادثة بالفعل في القطاعات الرئيسية للرأي العام، هناك قدر كبير من الوعي بالقضية يمكن البناء عليه.

ولا يبدو أن القيادة الفلسطينية المنقسمة لديها فهم أفضل لطبيعة عمل المجتمع والسياسات الأمريكية عن سابقاتها. ليس لديها أي فكرة عن كيفية التعامل مع الرأي العام الأمريكي ولم تبذل أي محاولة جادة لذلك. 

هذا الجهل بالطبيعة المعقدة للنظام السياسي الأمريكي حال دون الوصول إلى الفئات المؤثرة التي قد تتعاطف مع القضية الأمريكية من داخل المجتمع المدني الأمريكي. وعلى النقيض، بالرغم من المكانة الكبيرة المهيمنة التي تتمتع بها إسرائيل ومؤيدوها في الولايات المتحدة، لا يكفّون عن مواصلة إنفاق موارد هائلة لنشر قضيتهم في الأوساط العامة.

 وبالرغم من أن الجهود المبذولة لدعم حقوق الفلسطينيين ضعيفة التمويل ولا تتألف إلا من مبادرات عناصر المجتمع المدني، فقد حققت نجاحات ملحوظة في بعض المجالات مثل الفنون، وبالأخص السينما والمسرح؛ والسلك القانوني، إذ أصبح المدافعون عن حرية التعبير حلفاء مهمين في وجه الهجمات المتواصلة على داعمي الحقوق الفلسطينيين؛ والمجال الأكاديمي، لا سيما المختصين بدراسات الشرق الأوسط والدراسات الأمريكية؛ وبعض النقابات والاتحادات والكنائس؛ وقطاع كبير ورئيسي من قواعد الحزب الديمقراطي.

وتحتاج القيادة الفلسطينية أيضاً إلى جهودٍ مماثلة في أوروبا وروسيا والهند والصين والبرازيل ودول عدم الانحياز. لقد حققت إسرائيل تقدماً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة في كسب النخب والرأي العام في تلك الدول، بينما العديد من تلك الدول، خاصة الصين والهند، أصبح لها وجود قوي ونشط في الشرق الأوسط. 

وبالرغم من أن العديد من الدول العربية تخضع لأنظمة غير ديمقراطية تابعة للولايات المتحدة ترغب في الحصول على موافقة إسرائيل على بقائها، لا يزال الرأي العام العربي حساساً بشدة تجاه القضية الفلسطينية. في استطلاع عام 2016 في 12 دولة عربية، اعتبر 75% من المجيبين على الاستطلاع أن القضية الفلسطينية هي الهم الأول لكل العرب، ورفض 86% منهم الاعتراف بإسرائيل بسبب سياساتها ضد الفلسطينيين. يحتاج الفلسطينيون إلى إعادة إحياء استراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية السابقة بجذب رؤوس الأنظمة غير المستجيبة للرأي العام العربي المتعاطف مع القضية الفلسطينية.

والأهم، إذا أصبح الدخول إلى أي مفاوضات تستند إلى إجماع فلسطيني ممكناً، ينبغي لأي دبلوماسية مستقبلية رفض صيغة «أوسلو» المؤقتة والمضي قدماً على أسسٍ مختلفة تماماً. يجب أن تهدف أي حملة دبلوماسية أو العلاقات العامة العالمية المكثفة إلى المطالبة برعاية دولية ورفض السيطرة الأمريكية الحصرية على أي مفاوضات، وهو المطلب الذي تقدمت به السلطة الفلسطينية على استحياء. 

وإلى جانب ذلك، في أي مفاوضات، ينبغي على الفلسطينيين التعامل مع الولايات المتحدة باعتبارها امتداداً لإسرائيل. سوف تكون الولايات المتحدة حاضرة في أي محادثات بوصفها قوة عظمى، ولكن يجب احتسابها دائماً في طرف الخصم، وأنها تجلس بجوار إسرائيل على الطرف الآخر من طاولة المفاوضات، وهو ما يمثّل موقفها الفعلي، منذ 1967 على الأقل.

سوف تحتاج المفاوضات الجديدة إلى إعادة فتح كل القضايا المهمة والحاسمة التي خلّفتها حرب 1948، والتي حُسمت لصالح إسرائيل في 1967، بموجب قرار مجلس الأمن التابع الأمم المتحدة رقم 242: قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 181  بتقسيم فلسطين ومقترح التقسيم المفصّل للقدس؛ عودة وتعويض اللاجئين؛ الحقوق السياسية والوطنية والمدنية للفلسطينيين داخل إسرائيل. 

الخالدي يشدد على ضرورة أن تشدد تلك المحادثات على العدالة الكاملة في معاملة الشعبين، وأن تستند إلى اتفاقيتيّ لاهاي واتفاقية جنيف الرابعة وميثاق الأمم المتحدة مع التركيز على حق تقرير المصير الوطني وجميع القرارات المعنية لمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وليس فقط ما تختاره الولايات المتحدة في صالح إسرائيل.

هناك عنصرٌ منسي ولكنه مهم وأساسي للأجندة السياسية الفلسطينية، وهو العمل داخل إسرائيل، وبالأخص إقناع الإسرائيليين بأن هناك بديلاً للقمع المستمر للفلسطينيين. وهي عملية طويلة الأمد لا يمكن رفضها بوصفها نوعاً من «تطبيع» العلاقات مع إسرائيل: لم يحرَم الجزائريون أو الفيتناميون أيَّ فرصة لإقناع الرأي العام في بلد المحتل بالظلم الواقع عليهم، وهي الجهود التي أسهمت بشكل كبير في انتصارهم.

لا ينبغي على الشعب الفلسطيني، الذي خاض معركة شاقة لمقاومة الاستعمار، أن يتوقع نتائج سريعة. لقد أظهر الشعب الفلسطيني صبراً وصموداً ومثابرة غير عاديين في الدفاع عن حقوقهم، وهذا هو السبب الرئيسي لبقاء قضيتهم حيّة حتى اليوم. من الضروري الآن أن تتبنى كل عناصر المجتمع الفلسطيني استراتيجية مدروسة طويلة الأجل، مما يعني إعادة التفكير في الكثير مما حدث في الماضي، وفهم كيف نجحت حركات التحرير الأخرى في تعديل موازين القوى عندما لا تكون في صالحهم، وكسب كل الحلفاء المحتملين في نضالهم.

بالنظر إلى غرق العالم العربي في حالة فوضى هائلة أكبر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحركة وطنية فلسطينية تبدو بلا بوصلة ولا وجهة، يبدو أنها اللحظة المواتية لإسرائيل والولايات المتحدة للتواطؤ مع شركائهم العرب الاستبداديين من أجل دفن القضية الفلسطينية والتخلص من الفلسطينيين وإعلان الانتصار. ولكن من غير المرجح أن يكون الأمر بتلك البساطة. 

هذه ليست مسألةً تافهة بالنسبة للشعوب العربية، التي يمكن خداعها بعض الوقت، ولكن ليس طوال الوقت، وهو ما يبدو جلياً مع ظهور العلم الفلسطيني في كل الانتفاضات الديمقراطية الحديثة كما في القاهرة 2011 والجزائر 2019. وتعتمد الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية بشكل كبير على بقاء الأنظمة العربية غير الديمقراطية في السلطة من أجل قمع هذه المشاعر. وبغض النظر عن الوضع الراهن وما يبدو حالياً، فإن الديمقراطية الحقيقية في العالم العربي سوف تكون تهديداً خطيراً للهيمنة الإقليمية الإسرائيلية وحرية تصرفاتها.

وعلى نفس القدر من الأهمية، هناك أيضاً المقاومة الشعبية للفلسطينيين والتي من المتوقع أن يستمر تصعيدها، بغض النظر عن أي صفقة دنيئة قد يوافق قادتهم المشكوك في شرعيتهم. وبالرغم من الهيمنة النووية لإسرائيل في المنطقة، فإن هذه الهيمنة ليست بلا منافسة في الشرق الأوسط، ولا تعتبر كذلك تهديداً يبرر شرعية الأنظمة العربية غير الديمقراطية التي أصبحت عميلة لإسرائيل على نحو متزايد.

 وأخيراً، لعبت الولايات المتحدة، بكل ما تملكه من قوة، دوراً ثانوياً، وأحياناً بلا أي دور على الإطلاق، في أزمات سوريا واليمن وليبيا وكل أزمة أخرى في المنطقة. لذا من غير المتوقع أن تحافظ على سيطرتها الاحتكارية على القضية الفلسطينية، وعلى الشرق الأوسط بأكمله، التي تمتعت بها لفترة طويلة جداً.

لقد تغيرت موازين القوى العالمية: بناء على احتياجاتهم المتزايدة للطاقة، سوف يصبح للصين والهند صوت أعلى فيما يتعلق بالشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين عمّا كان عليه خلال القرن الماضي. وبحكم اقترابهم من الشرق الأوسط، تتأثر أوروبا وروسيا بعدم الاستقرار في الشرق الأوسط أكثر من الولايات المتحدة، لذا من المتوقع أن يكون لهما دور أكبر هناك. 

على الأرجح لن تستمر سياسة اليد المطلقة الأمريكية في المنطقة كما كانت لبريطانيا قبل قرن تقريباً. ربما هذه التغيرات، لصياغة مسار مختلف لقضية اضطهاد الشعب الفلسطيني.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى