تقارير وملفات إضافية

قصة عاصمة الحراك العراقي التي تعهد شبابها بالزحف لبغداد بعدما خدعهم الصدر، ولماذا قد يجنحون لخيار أخطر؟

الناصرية عاصمة الحراك العراقي هكذا توصف عاصمة محافظة ذي قار الواقعة في جنوب العراق، التي ينظر لشبابها بأنهم رموز للتضحية.

ولكن الأمور مرشحة التصاعد في هذه المحافظة القبلية وقد يجنح شبابها وقبائلها لحمل السلاح ضد الدولة، حسبما ورد في  تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.

في مساء يوم الأحد 26 يناير/كانون الثاني، كان الشيخ عادل العصّاد، شيخ قبيلة عبادة، إحدى أكبر القبائل في الناصرية، عاصمة محافظة ذي قار جنوب العراق، التي توصف بعاصمة الحراك العراقي في اجتماع في بلدة البطحاء، شمال المدينة، مع مشايخ قبيلة البدور، وهي واحدة من أكبر القبائل في المنطقة.

كانوا يناقشون آخر التطورات في حركة الاحتجاج المناهضة للحكومة والمستمرة منذ أربعة أشهر تقريباً، عندما تلقى العصاد مكالمة هاتفية من الشيخ حسين آل خيون، شيخ قبيلة العبودة، يطلب منه العودة فوراً إلى المدينة.

قال له آل خيون: «الموقف يزداد سوءاً وقد وصل المحتجون إلى مديرية الشرطة».

وأضاف أنهم كانوا يخططون لمهاجمة الشرطة.

«تعال واجعل الشباب [المحتجين] يتراجعون. سيُقتل أبناؤنا».

وبحسب رواية مشايخ القبائل، عرض قائد الشرطة المحلية العميد ناصر الأسدي تأمين المحتجين في وسط المدينة، وعدم إجبارهم على فتح جسور داخلية، وضمان عدم مهاجمتهم ما داموا بعيدين عن طريق البصرة-بغداد السريع، الذي كانوا يحاصرونه.

ووافق المحتجون على العودة إلى الساحات القديمة في وسط المدينة وإقامة خيامهم هناك يوم السبت 25 يناير/كانون الثاني. لم تمر سوى بضع ساعات حتى تعرض المحتجون لهجوم على يد قوة مسلحة مجهولة، مما أسفر عن مقتل أحدهم وإصابة آخرين.

نفى قائد الشرطة أن يكون له هو وقواته أي علاقة بالهجوم، ولكن خوفاً من اندلاع العنف مرة أخرى، طلب من مشايخ القبائل التدخل لعقد هدنة بين قواته والمحتجين.

هرع الشيخ عادل العصّاد، شيخ قبيلة عبادة، ورفاقه إلى مديرية الشرطة حيث كان المحتجون يحاصرون المبنى وأقنعوهم بالانسحاب، ولكن قبل أن يتحركوا بعيداً، فوجئوا بإطلاق النار على سياراتهم.

لم يسفر الحادث عن وقوع إصابات، لكن عدة رصاصات أصابت سيارة العصّاد. وكان الوضع في الناصرية هادئاً نسبياً. ولكن سرعان ما اندلع مرة أخرى عندما هوجم المحتجون في وسط المدينة قبل منتصف الليل على يد قوة مسلحة غير معروفة تستخدم سيارات نصف نقل تابعة للحكومة، ففتحت النار عليهم وأحرقت خيامهم، مما أسفر عن مقتل أحد المحتجين.

وقبل نهاية الهجوم، كانت هناك شائعات تتناقل في كل مكان تتهم أتباع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر بمهاجمة المتظاهرين انتقاماً من المحتجين لتوجيههم إهانات للصدر في أغانيهم. 

غير أن السلطات المحلية ومشايخ القبائل المشاركين في المفاوضات بين الشرطة والمحتجين عرفوا أن الصدريين لم يشاركوا.

وقالت مصادر الشرطة وعدد من شيوخ القبائل والناشطين في الناصرية لموقع Middle East Eye إن قوة مرتبطة بزعيم بارز في فصيل مسلح تدعمه إيران ويشغل منصباً أمنياً محلياً كبيراً هي من نفذت الهجوم؛ «بهدف دفع المتظاهرين والصدريين إلى قتال بعضهم«.

وقال محمود، وهو مهندس يبلغ من العمر 30 عاماً، شارك في الاحتجاجات المندلعة في الناصرية طيلة الأشهر الأربعة الماضية، للموقع: «لن نقاتل إخواننا [الصدريين]، لا شيء يدعو للقلق».

وأوضح قائلاً: «نحن نعرف ما تخطط له القوى السياسية، لذلك لا داعي للقلق، لن نهاجم إخواننا. يتعين على المسؤولين والسياسيين وعصاباتهم توخي الحذر والتفكير فيما يمكن أن نفعله [حمل السلاح]، لكننا لم نفعل ذلك [قتالهم] حتى الآن».

وأضاف: «هذه هي الناصرية، وليست بغداد».

أصبح النشطاء في محافظة ذي قار وعاصمتها الناصرية، وفقًا للنشطاء ومسؤولي الأمن، «رموزاً للتضحية» بالنسبة لحركة الاحتجاج العراقية المناهضة للحكومة، فقد كانوا قوة محركة للاحتجاجات وعانوا من ارتفاع أعداد القتلى من بينهم أكبر من أي مدينة أخرى خارج بغداد.

وهناك مخاوف من أن القمع المستمر، إلى جانب فشل الحكومة في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، قد يؤول إلى اندلاع صراع أهلي في المحافظة، الأمر الذي من شأنه أن يوفر الزخم لعملية قمع صارمة.

وقال المحلل السياسي رحمن الجبوري، وهو زميل بالجامعة الأمريكية في السليمانية بالعراق، لموقع Middle East Eye: «تواجه الحكومة العراقية وحلفاؤها مشكلة حقيقية فيما يتعلق بالوضع في الناصرية، خاصة وأنها المدينة التي تقود حركة الاحتجاج في جميع أنحاء العراق».

وأوضح قائلاً: «لا يمكنهم اتهام المحتجين هنا بأنهم بعثيون أو أنهم ينفذون أجندات خارجية كما يفعلون مع المتظاهرين في بغداد لتبرير قمعهم».

وأضاف الجبوري: «والحقيقة التي تشير إلى دعم القبائل للمحتجين وغياب النزاعات السياسية بين المحتجين، جعلت الموقف أكثر صعوبة، لذلك بدأوا في الضغط عليهم [المحتجين] لدفعهم إلى حمل السلاح، مرة ضد الشرطة، وأخرى ضد الصدريين».

وتابع قائلاً «دفع المحتجين لحمل السلاح سيكون أفضل طريقة للقضاء عليهم دون أي عواقب».

وتعد ذي قار، التي تقع على الضفة اليسرى لنهر الفرات وعاصمتها الناصرية وتبعد حوالي 400 كم جنوب بغداد، مهد الحضارة السومرية القديمة.

ويُعتقد أيضاً أنها مسقط رأس نبي الله إبراهيم، أبي الديانات الإبراهيمية من اليهودية والإسلام والمسيحية.

وتشتهر المحافظة بطبيعتها المتمردة، وكانت حاضنة للعديد من الحركات السياسية في البلاد، بما في ذلك الحزب الشيوعي في ثلاثينيات القرن الماضي، وحزب البعث في الخمسينيات.

وصارت فيما بعد مركزاً للجماعات المسلحة الشيعية التي تتحدى حكم الرئيس السابق صدام حسين، وكانت أهوارها تُستخدم ملجأً لهذه الجماعات بعد شن هجماتها.

فضلاً عن أن انتفاضة الشيعة عام 1991، والتي قمعها صدام في النهاية بوحشية، بدأت في ذي قار.

ومنذ أكتوبر/تشرين الأول، قادت الحكومة العراقية وحلفاؤها المدعومين من إيران حملة دموية ضد المحتجين، مما أسفر عن مقتل أكثر من 600 شخص وإصابة حوالي 25 ألف آخرين، وفقاً لجماعات حقوق الإنسان.

وبرغم مقتل أكثر من 150 متظاهراً، معظمهم في بغداد، بالرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع في الأسبوع الأول من الاحتجاجات، فقد جاء رد الناصرية أكثر عنفاً، حيث أحرق المحتجون غالبية المقار الحكومية والحزبية ومنازل المسؤولين في المحافظة.

قال علي وجيه، أحد المدافعين البارزين عن حقوق الإنسان، في حديثه إلى موقع Middle East Eye: «المحتج في ذي قار بشكل عام، والناصرية بشكل خاص، هو الأصعب والأقسى مقارنةً بالمتظاهرين في باقي المحافظات، لأن البيئة القبلية ترتكز على المفاهيم الذكورية وتنمي الأنا لدى الشباب بمرور الوقت«.

وأضاف: «تحديهم للقمع بمثل هذه الشجاعة والصلابة حوّل الناصرية إلى محرك للاحتجاجات في بغداد والمحافظات، بالرغم من أن الاحتجاجات لم تبدأ من هناك».

وبالإضافة إلى سد الجسور، أغلق المحتجون الدوائر الحكومية والمدارس والجامعات وأعلنوا اعتصاماً مفتوحاً.

في نوفمبر/تشرين الثاني، وصلت التوترات مستويات جديدة وبدا أن الصراع المسلح أحد الاحتمالات المطروحة.

في 28 نوفمبر/تشرين الثاني، ودون سابق إنذار، هاجمت قوات الأمن المتظاهرين الذين كانوا يتظاهرون على جسر الزيتون في وسط المدينة، مما أسفر عن مقتل 32 منهم وإصابة 225 آخرين.

المذبحة التي ارتكبتها القوات العراقية بقيادة اللواء جميل الشمري، القائد السابق لخلية الأزمة في الناصرية، بدم بارد وبدون مبررات واضحة، أثارت ردود فعل غاضبة على الصعيدين الدولي والمحلي.

هدد شيوخ عدد من قبائل ذي قار بحمل السلاح ضد السلطات المحلية رداً على مقتل أبنائهم.

وفي محاولة لتهدئة الوضع، أقال رئيس الوزراء العراقي، عادل عبدالمهدي، اللواء الشمري.

وفي خطبة الجمعة، وجهت حوزة النجف التي يمثلها آية الله علي السيستاني، أكثر رجال الدين نفوذاً في العراق، دعوات للبرلمان من أجل سحب الثقة من عبدالمهدي في اليوم التالي، وذلك لمنع العراق من «الانزلاق نحو العنف والفوضى».

ورد عبدالمهدي بإعلانه عزمه تقديم استقالته بعد ساعات.

ولم يغادر محتجو الناصرية أماكنهم وأحضروا رفاقهم القتلى إلى ساحة الاحتجاج، لإحياء ذكراهم قبل دفنهم.

أعلن متظاهرو الناصرية في 13 يناير/كانون الثاني، عن عزمهم تنفيذ استراتيجية جديدة، وهي إغلاق الطريق السريع الذي يربط البصرة ببغداد ومنع وصول ناقلات النفط والشحن من البصرة إلى بقية المحافظات، وذلك إذا لم تستجب الحكومة والقوى السياسية لمطالب المحتجين في غضون أسبوع واحد فقط.

وتراجعت التظاهرات في بغداد، التي عانت من أسوأ الأعمال الانتقامية على يد قوات الأمن، خطوات قليلة، تاركة قيادة الاحتجاجات لمحتجي الناصرية.

وبعد مرور 48 ساعة، أعلنوا «دعمهم الكامل لمبادرة محتجي الناصرية».

وقد أقروا ذلك في بيان بيان صدر يوم 15 يناير/كانون الثاني من بغداد: «تقديراً لمواقف الناصرية العظيمة والملهمة، منذ بداية الاحتجاجات.. ووفاءً للدماء النقية التي سفكت من أجل الوطن، دماء رجال العراق الحر الذين سقطوا في ذي قار وجميع مدن الانتفاضة».

وانضم المحتجون في المحافظات الأخرى إلى محتجي بغداد، في إعلان دعمهم للمبادرة ومشاركتهم في تنفيذ الفكرة.

بمجرد انتهاء الموعد النهائي في 19 يناير/كانون الثاني، بدأ المحتجون بالمحافظة في غلق الطرق الرئيسية التي تربط مدنهم ببقية المحافظات، في حين أقام محتجو الناصرية خيامهم بالقرب من جسر فهد، شمال المدينة، والذي يربط الطريق السريع بالمدينة ومنع أي ناقلات نفط وبضائع من المرور.

وقد أدت التطورات الأخيرة إلى قلق القوى السياسية الحاكمة، التي كانت تراهن على عاملي الوقت والترهيب لقمع المظاهرات في بغداد.

وقال زعيم سياسي بارز لموقع Middle East Eye: «القوى السياسية الفاسدة والحكومة لم تتأثر بإغلاق الطريق السريع ولا يهتمون بتأخر وصول السلع أو المشتقات النفطية حتى لو استمر الانقطاع لأسابيع».

وأضاف: «الأمر كله يتعلق بالإعلام. لقد كان تحدياً صارخاً للدولة ويؤثر على مكانتها».

تطوع مقتدى الصدر، الذي يتبعه الملايين ويسيطر على واحد من أكبر الفصائل المسلحة بالإضافة إلى كتلة برلمانية تضم أكثر من 50 عضواً (أكبر كتلة منتخبة)، لتوفير الحماية للمتظاهرين خلال الأشهر الأخيرة.

ولكن بعد رد فاتر على دعواته لمظاهرة ضد القوات الأمريكية في العراق، تحول موقف الصدر فجأة، وسحب دعمه للمتظاهرين وغادر معظم أتباعه ساحات الاحتجاج في جميع أنحاء العراق، رداً على ذلك.

ووفقاً لعدد من القادة السياسيين والأمنيين، نظرت حكومة عبدالمهدي وحلفاؤه إلى انسحاب الصدر على أنه «ضوء أخضر لمهاجمة المتظاهرين».

وبعد ساعات، تعرضت معظم مناطق الاحتجاج في جميع المحافظات لهجمات شديدة، ولا سيما ساحة الاعتصام بالقرب من جسر فهد شمال الناصرية، مما أدى إلى استعادة قوات الأمن السيطرة على الطريق السريع.

وقُتل أربعة محتجين في الناصرية وجُرح 28 آخرين، حسبما أفادت به مصادر طبية وشرطية.

وأمضى محتجو الناصرية الليلة في العراء خوفاً من الاعتقالات التي طالت العشرات منهم. وقبل أن يعودوا إلى منازلهم، أطلق علاء الركابي -أحد منظمي المظاهرات البارزين في الناصرية- مبادرة جديدة هذه المرة بدعوة جميع المحتجين في المحافظات الثائرة للانضمام إلى محتجي المدينة.

ودعوا إلى مسيرة سيراً على الأقدام إلى بغداد ومحاصرة المنطقة الخضراء التي تضم مباني حكومية، لإجبار المحكمة الاتحادية والمجلس القضائي الأعلى على التدخل وتنفيذ مطالب المحتجين.

ورحب النشطاء بمبادرة الركابي الجديدة، التي تحدد لها مهلة حتى منتصف فبراير/شباط، بينما استمر القلق بشأن الفراغ الذي خلفه الصدريون في ساحات الاحتجاج، خاصة في بغداد، وانضم عشرات الآلاف من الطلاب والأسر إلى المحتجين. .

وقال القائد السياسي البارز إن هذا أعطى قوة دفع كبيرة للاحتجاجات و «خرب خطط الحكومة وحلفائها لاستغلال غياب الصدريين للقضاء على المتظاهرين».

قد يمثل الحادث الذي وقع في نهاية الأسبوع نقطة تحول في حركة الاحتجاج في العراق. وبرغم دعوة الصدر أنصاره للعودة إلى مناطق الاحتجاج، خاصة في بغداد يوم الجمعة، تجري محاولات جديدة لزرع الانقسام في قلب الحركة الاحتجاجية لأن المحتجين يعتقدون أن الصدر يتلاعب بهم ويستخدم الاحتجاجات لخدمة أهدافه السياسية.

وقال مسؤولو الأمن العراقيون ومشايخ القبائل لموقع Middle East Eye إن هذا هو «التكتيك الأكثر خطورة» الذي استخدمه خصومهم حتى الآن وقد يؤدي إلى اندلاع القتال بين الشيعة، وهو الأمر الذي عملت جميع الأطراف العراقية على تجنبه حتى هذه اللحظة.

إذ إن الضغط على محتجي الناصرية من خلال خلق نزاعات بينهم وبين الصدريين من جهة، وبينهم وبين السلطات المحلية من ناحية أخرى، قد يكون له نتائج وخيمة.

وقال مسؤول كبير في الأمن القومي العراقي لموقع Middle East Eye: «استخدام العنف ضد محتجي الناصرية يزيد من عنادهم ويستثير قبائلهم».

وأوضح قائلاً: «لدى القبائل في الجنوب ترسانة هائلة من الأسلحة، وإذا استمر الضغط على أبنائهم بهذه الطريقة، فسوف يسعون للانتقام من قبائل المسؤولين والسياسيين وقادة الفصائل المسلحة الموالية للحكومة».

وأضاف: «لن أتفاجأ إذا سمعت أن الناصرية قد أعلنت الكفاح المسلح ضد الحكومة وحلفائها».

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى