تقارير وملفات إضافية

هل جازفت روسيا بحرب النفط وخسرت رصيد 30 عاماً من العلاقات في الشرق الأوسط؟

تطور لدى مجتمع السياسة
الخارجية بأكمله خلال السنوات القليلة الماضية تصور بأنَّ فجر عهد جديد من السياسة
الدولية بات قريباً. وتتمثل المعالم المُمَيِزة للنظام العالمي الذي أعقب فترة ما
بعد الحرب الباردة في تنافس القوى العظمى وإعادة ترتيب العلاقات الأمريكية في
أنحاء العالم. ويبرز ذلك بوضوح في الشرق الأوسط، حيث يطور الحلفاء علاقات
دبلوماسية وتجارية وعسكرية مع القوى التي من المفترض أنَّ واشنطن تتنافس معها -وهي
الصين وروسيا- وتحديداً في الوقت الذي يعرب فيه الكثير من الخبراء والمحللين
والمسؤولين والساسة الأمريكيين عن رغبتهم في الانسحاب من الشرق الأوسط. ودفع هذا
بالكثير من هؤلاء الأشخاص إلى استنباط أنَّ موسكو أو بكين ستشكل نظاماً إقليمياً
جديداً.

لكن رغم ذلك هناك العديد من
الأسباب التي تثير الشكوك حول الأمر، وبعضها أصبح جلياً في الأسابيع الأخيرة. ويعد
أكثر هذه الشكوك حدة في حرب أسعار النفط الدائرة بين روسيا والسعودية، مما يعكس
إلى أي مدى أفرطت روسيا في تقدير نفوذها في المنطقة، بحسب تقرير لصحيفة Foreign Policy الأمريكية.

وبعد ما يقرب من 30 عاماً على
انتهاء الحرب الباردة، ازداد انفتاح قادة دول الشرق الأوسط بلا شك على ممارسة روسيا
نفوذها في المنطقة. فبعدما ألقت عن كاهلها عبء الأيديولوجية الشيوعية السوفيتية،
وبرهنت الولايات المتحدة أنها قوة مُستنزَفة غير كفء وغير فعالة، بدأ قادة المنطقة
يفكرون في موسكو على أنها فاعل إقليمي بناء أكثر منها بديلاً لواشنطن. وترك الفارق
بين الطريقة التي تخلى بها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عن الرئيس المصري
حسني مبارك، والطريقة التي تدخل بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريا لإنقاذ
نظام بشار الأسد، انطباعاً هائلاً لدى الحكام العرب المستبدين. ويُضاف إلى
الانطباع السلبي عن الولايات المتحدة حقيقة أنَّ اقتصاديات الشرق الأوسط وأنظمتها
السياسية لديها الكثير من النقاط المشتركة مع روسيا أكثر من الولايات المتحدة،
ومنها الاعتماد على عائدات النفط والحكم الاستبدادي.

وساهمت واشنطن في تطوير علاقة
روسيا بالشرق الأوسط؛ وذلك من خلال شق طريقها إلى ما يسميه الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب “استقلالية الطاقة” (أياً كان المفترض أن يعنيه ذلك)، الذي أغرقت
الولايات المتحدة في سبيله الأسواق بالغاز الطبيعي والنفط. وشكَّل ذلك ضغطاً على
أسعار الطاقة ودفعها للهبوط، ولهذا السبب اتفق أعضاء أوبك (في الواقع السعودية) وروسيا
في عام 2016 على الحد من إنتاج النفط لصالح رفع الأسعار.

وساعد هذا الاتفاق على
استقرار أسواق الطاقة، وكان في الواقع نتيجة حرب نفطية سابقة رفض خلالها السعوديون
خفض الإنتاج على أمل الإضرار بمنتجي النفط الصخري (وهو ما لم يحدث). وعاد سعر
برميل النفط إلى المستوى الذي ساعد السعوديين والروس على دفع ثمن الأشياء التي
أرادوا فعلها، سواء كانت شن حروب -انظر إلى أوكرانيا وسوريا واليمن وليبيا- أو
الاستثمار في التحول الاجتماعي. فتكلفة رؤية 2030 التي وضعها ولي العهد السعودي
محمد بن سلمان باهظة الثمن.

وتمحور الاتفاق حول حجم إنتاج
النفط، لكنه انطوى أيضاً على آفاق تغيير تشكيل العلاقات في منطقة الخليج. فبالنسبة
للسعوديين، مثَّل الروس شبكة تحوط ضد الولايات المتحدة التي لا يمكن التنبؤ
بأفعالها، والتي على الرغم مما تعانيه من خلل سياسي واستقطاب، بدا أنَّ هناك
توافقاً واسعاً فيها على ضرورة مغادرة الشرق الأوسط. بينما في المقابل، حظي نفوذ
روسيا وصورتها في المنطقة بدفعة إيجابية من خلال العمل مع السعودية. ولا يمكن
الجزم بما إذا جاء هذا بالفعل على حساب أمريكا أم لا، لكن الانطباعات أهم في
الغالب من الواقع. فعلى أقل تقدير، ما أراده بوتين هو أن يعتقد الجميع أنَّ لديه
القدرة على دفع السعوديين بعيداً عن الولايات المتحدة، كما فعل مع الأتراك
والمصريين. وبعيداً عن التصيد الروسي، هذا هو السبب الذي جعل بوتين يعرض على
السعوديين أن يبيعهم منظومة الدفاع الجوية “إس-400″، بعدما امتنع ترامب
عن الرد عسكرياً على هجمات إيران ضد منشآتي تكرير نفط في السعودية في سبتمبر/أيلول
2019. يُذكَر أنَّ هذه هي نفس المنظومة الصاروخية التي اشترتها تركيا من موسكو في
أعقاب توتر العلاقات بين واشنطن وأنقرة.

ومع ذلك، بالرغم من التشابك
الواضح بين المصالح الروسية والسعودية، وبالأخص في مجال الطاقة، لم يبزغ فجر عهد
جديد من العلاقات الروسية والسعودية. ولا يمكن للروس لوم أي طرف سوى أنفسهم على
هذا. فحتى من قبل مقتل جمال خاشقجي، وُصِف الأمير محمد بن سلمان بأنه طائش ومستبد.
ونظراً لأنه أثبت صحة ذلك في عدد كبير من الوقائع السابقة، فقد يكون من السهل
التصديق بأنَّ هذا الطيش هو ما تسبب في الهبوط الحاد في أسعار النفط الشهر الماضي.
لكن هذه ليست الحقيقة. إذ حضر السعوديون إلى اجتماع مجموعة “أوبك +”
(التي تضم 10 أعضاء بخلاف أعضاء أوبك، ومنهم روسيا) في أوائل مارس/آذار، وقالوا
هذا تحديداً: شهد الطلب على منتجاتنا مزيداً من التراجع بسبب الجائحة العالمية؛
لذا دعونا نقتطع ملايين البراميل من المعروض في الأسواق. ومن وجهة نظر سعودية، بدا
ذلك موقفاً منطقياً تماماً، لكن روسيا رفضت قائلة إنها ترغب في تقييم التأثيرات
الكاملة لتفشي فيروس كورونا المستجد على الاقتصاد العالمي قبل تبني خطوة خفض
الإنتاج. ولم يتحل هذا الموقف بكثير من المنطقية؛ نظراً لأنه بحلول ذلك الوقت أصبح
من الواضح أنَّ الجائحة تجبر الاقتصاد تلو الآخر على الإغلاق، ومن ثم خفض الطلب
على الغاز والنفط.

ويُرجَّح أنَّ الروس لم
يرغبوا في خفض الإنتاج لأنهم كانوا أكثر اهتماماً بإيذاء منتجي النفط الصخري في
الولايات المتحدة وانتزاع حصة سوقية من السعوديين. وكانت هذه النية الأخيرة هي ما
أغضب السعوديين؛ فهم عازمون على ألا يتعرضوا للتلاعب. واقترح المسؤولون السعوديون
أن يتجهوا هم والروس والولايات المتحدة وعدد من الفاعلين الآخرين لخفض الإنتاج
نسبياً. 

لكن وفقاً للسعوديين، يريد
الروس منهم خفض إنتاجهم أكثر من الآخرين. ويثير الموقف الروسي مخاوف في الرياض من
أنه مهما كانت الاتفاقية التي يبرمها السعوديون مع موسكو، فسيظل لدى روسيا دافع
للغش؛ مما قد يقوض عائدات المملكة وحصتها في السوق -وهو أسوأ عالم قد تعيش فيه
السعودية من بين جميع العوالم الممكنة. ونتيجة لذلك، انسحبت السعودية من الاجتماع
متوعدة بزيادة الإنتاج إلى 10 ملايين برميل في اليوم وبدأت في تقديم تخفيضات كبيرة
على سعر نفطها. وكانت هذه محاولة لتخويف الروس وإرغامهم على العودة إلى طاولة
المفاوضات، لكن الروس أعلنوا أنهم يستطيعون تحمل أسعار النفط المنخفضة. وقال
السعوديون إنهم يستطيعون فعل نفس الشيء، وبعدها انخفضت أسعار النفط عالمياً.

ومن هنا، يبدو أنَّ الولايات
المتحدة وقعت ضحية لحرب النفط هذه. وأصاب الإحباط أعضاء الكونغرس من الولايات التي
تتمتع فيها صناعة الوقود الأحفوري بأهمية خاصة. لكن من الصعب العثور على أي
منتصرين في هذه الحرب. ربما الصينيون وحدهم هم من يمكنهم التأهل للفوز، إذ يتطلعون
إلى تحفيز الاقتصاد في فترة ما بعد الفيروس بمساعدة النفط الرخيص.

وتوقع المحللون أن تنتهي حرب
النفط خلال اجتماع “أوبك +” يوم الخميس، 9 أبريل/نيسان. وعلى أية حال،
قد تكون إحدى النتائج المحتملة هي القضاء على فكرة أنَّ موسكو ستضطلع بدور مهم في
إنشاء نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط. وفي سياق مختلف، كتب المُنظِّر السياسي
الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي ذات مرة عن “فترة الشغور السياسي”
التي تعقب انتهاء أحد الأنظمة وفي الوقت نفسه “عدم إمكانية خروج [نظام] جديد
للحياة”. ولفت غرامشي إلى أنه في هذه الفترة “تظهر أعراض هوس”.

ونحن الآن نمر بمثل هذه
الفترة، ولهذا السبب لا ينبغي أن يسيئ أولئك الذين يبحثون عن نظام جديد فهم
العلاقات الروسية السعودية التي ازدادت قوة في السنوات القليلة الماضية، ويظنوا
أنها أي شيء آخر بخلاف علامة من علامات الاضمحلال وليست دلالة على ميلاد نظام
عالمي جديد.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى