تقارير وملفات إضافية

نعم، السعوديون قد يتقبلون الضرائب لإنقاذ بلادهم، ولكنهم يريدون مقابلاً بسيطاً من ولي العهد

“لم نكن نملك شيئاً في السابق، وفجأةً بات لدينا كل شيء”، هكذا وصفت طالبة سعودية الانفتاح الذي شهدته البلاد مؤخراً، ولكن اليوم أصبح استمرار الفعاليات والاحتفالات التي ميزت هذا الانفتاح مهدداً بل أصبحت رؤية السعودية 2030 مهددة برمتها.

تبدو طالبة الأعمال نورا خالد (23 عاماً) سعيدة وهي تتحدّث عن شعورها بالرياض في ديسمبر/كانون الأول، وهي تُشاهد بلدها الذي كان مُحافظاً يُرحّب بنجوم الراب العالميين، وأبطال المُصارعة، وقيادة النساء للسيارات، ودور العرض السينمائي، والمقاهي المُختلطة بين الجنسين، وغيرها من الأمور التي لم يتخيّلها أحدٌ قبل بضع سنوات.

تقول الطالبة “الأمر يحدث بسرعة ودون توقُّف”.

لكن البلاد باتت تُواجه المزيد من الصعوبات التي تعرقل أحلام هذه الفتاة، بل إنها جعلت رؤية السعودية 2030 مهددة بالتوقف، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.

إلى جانب فيروس كورونا الذي يُعيد تعريف الحياة اليومية للسعوديين، نجد أنّ انهيار أسعار النفط يُفقِد المملكة ثروةً هائلة كانت مضمونةً داخل السعودية الجديدة. وتُهدّد الضربتان بإغراق أجندة ولي العهد محمد بن سلمان الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن أنهما تعرقلان بالفعل دولة الرفاهية التي منحت السعوديين حياةً مدعومة بدرجةٍ مُريحة.

قلب الأمير محمد، الحاكم الفعلي للسعودية، الأمور رأساً على عقب بالنسبة للسعوديين حين أقر بأنّ المملكة لن تستطيع مواصلة العيش على العائدات النفطية إلى الأبد. وتزامنت الإصلاحات الاجتماعية مع خطوات مُبهرة لتنويع اقتصاد المملكة، وإدخال السياحة والترفيه، وحتى بناء مدينة مستقبلية جديدة تُدعى نيوم بموجب الخطة التي أطلق عليها اسم: “رؤية 2030”.

ولكن في ظل توقّف السياحة واستحالة إقامة الحفلات وانهيار أسعار النفط، نجد أنّ الدولة التي كانت مُتحمّسةً قبل بضعة أشهر باتت على مشارف مستقبل مختلف تماماً عن ما وعد به الأمير محمد.

“أعتقد أنّ رؤية 2030 انقطعت فعلياً. أعتقد أنّ أمرها انتهى”.

بهذه الكلمات القاسية رسم مايكل ستيفنز، مُحلّل شؤون الشرق الأوسط في مؤسسة Royal United Services Institute بلندن تصوراً لمستقبل المملكة.

إذ يقول “تُواجه السعودية “أصعب فترةٍ مرّت عليها، ولا سيّما خلال عهد محمد بن سلمان”.

ولم تصدُر عن ولي العهد أي إشارة على أنّ خطةً بعينها ستتغيّر، لكن وزير ماليته محمد الجدعان صرّح لوكالة Bloomberg الأمريكية بأنّ بعض المشاريع مثل نيوم ستُؤجّل ببساطة.

وقد يعني ذلك إن السعوديين المعتادين منذ زمنٍ بعيد على الدعم السخي للنفط والكهرباء، والوظائف الحكومية عالية الأجر، والتعليم والرعاية الصحية بالمجان من المُحتمل أن يعيشوا حياةً أقل راحة من الأجيال السابقة. مما سيُعيد كتابة العلاقة بين السعوديين وبين حُكّامهم.

فقد أعلنت الحكومة يوم الخميس أنّها ستُضاعف ضريبة القيمة المُضافة على السلع والخدمات إلى ثلاثة أضعاف، لترتفع من 5% إلى 15%، وتخفض البدلات الشهرية للعاملين بالدولة، وتدرس تقليص المزايا المالية الأخرى المدفوعة للموظّفين والمقاولين الحكوميين.

وقال الجدعان في تصريحه: “نحن نُواجه أزمةً لم يشهدها العالم من قبل في التاريخ الحديث”. وأردف أنّ التغييرات في الضرائب والمزايا “رغم صعوبتها، ولكنّها ضروريةٌ ومُفيدة من أجل الحفاظ على الاستقرار المالي والاقتصادي الشامل”.

ويبدو أنّ التغييرات الاجتماعية، مثل توسيع حريات المرأة، ستظل قائمة لأنّ المواقف تُجاهها بدأت تتغيّر. لكن المشكلة باتت الآن تتمحور حول التحوّل الاقتصادي الذي كان سيستغرق عقوداً حتى في أكثر السيناريوهات تفاؤلاً بحسب رأي غالبية المُحلّلين.

وكانت المملكة تعتمد على النفط لتمويل ذلك التحوّل وتدفع من أرباحه للمُطربين الأجانب، والفعاليات الرياضية العالمية، وتعليم الشباب السعودي في الخارج، ورعاية صُنّاع الأفلام السعوديين، وتطوير المواقع السياحية الصحراوية، وغيرها.

لكن سعر خام النفط انخفض إلى أكثر من النصف في مارس/آذار، بعد عرقلة الجائحة للطلب ودخول الأمير محمد في حرب أسعار ضد روسيا. وبات سعر النفط الحالي أقل بكثير مما تحتاجه البلاد لموازنة ميزانيتها.

إذ قالت شركة أرامكو النفطية الحكومية بالسعودية، يوم الثلاثاء 12 مايو/أيار، إنّ أرباح الربع الأول من العام تراجعت بنسبة 25% مقارنةً بالعام الماضي.

وتجدُر الإشارة إلى أنّ المملكة اعتنت بمواطنيها إبان الجائحة بطرقٍ لا يحلُم بها الأمريكيون أنفسهم: إذ دفعت من أجل إعادة السعوديين إلى المملكة جواً من كافة أنحاء العالم، ثم عزلتهم داخل الفنادق على نفقة الدولة، قبل أن تدعم 60% من أجور العاملين في القطاع الخاص.

ولا يُعاني السعوديون من أزمة تسريح العمالة تقريباً، كما وفّرت المملكة قروضاً بدون فوائد، وخصومات على الكهرباء، وغيرها من المساعدات التحفيزية.

لكن أسعار النفط ومعدلات الإنفاق الحكومي الحالية تعني أنّ أموال السعودية ستنفد خلال فترةٍ تتراوح بين الثلاث والخمس سنوات، مما سيُجبرها على طلب قروضٍ أكبر بحسب كارين يونغ، زميلة مؤسسة Arab Gulf States Institute البحثية في واشنطن.

وعلى الشبكات الاجتماعية، تراوحت ردود أفعال السعوديين بين الاستغناء والوطنية. في حين تساءل آخرون عن أسباب تمويل صندوق الثروة السيادية لعملية الاستحواذ على نادي نيوكاسل يونايتد لكرة القدم -أحد أندية الدوري الإنكليزي الممتاز- بقيمة 370 مليون دولار، بينما تخفض الحكومة النفقات على أرض الوطن.

وقال المُحلّلون إنّه في حال تواصلت الاستثمارات البرّاقة، والإنفاق على الحفلات التي تعُجّ بالنجوم العالميين، فسوف تُخاطر المملكة بمواجهة استياء المواطنين -لكن الأوضاع لن تتفاقم أكثر من ذلك.

إذ لا تتردّد السعودية في الإنفاق بسخاء على المزايا الاجتماعية حين تكون بحاجةٍ إلى ضمان الدعم المحلي، أو استخدام القوة لسحق المُعارضة.

وليست الأخبار كلها سيئةً بالنسبة للسعوديين رغم ذلك. إذ كشف بحثٌ أجراه عالم الاقتصاد السياسي جاستن جانجلر مع زملائه أنّ مواطني الخليج منفتحون على ضريبة القيمة المضافة والضرائب عموماً بدرجةٍ غير مُتوقّعة، لأنّها وسائل لموازنة ميزانية الدولة. 

يقول جانجلر في مقال نشرته مؤسسة Responsible Statecraft البحثية الأمريكيةحين طلبنا من مواطنيين خليجيين في استبيان أن يختاروا بين السياسات المالية المتنافسة، كان سكان الخليج أكثر ميلاً لتفضيل ضريبة القيمة المضافة بدلاً من تقليل الوظائف والمزايا الحكومية أو حتى توفير الماء والكهرباء مجاناً. 

وهذا يعني ضمنياً أنّ مواطني الخليج لا يُعارضون مبدأ الضرائب، رغم اللازمة الشائعة التي تقول إنّ انعدام الضرائب يُمثّل إحدى الركائز الأساسية للعقد الاجتماعي في الخليج.

وربما لن تُؤثّر إجراءات التقشّف كثيراً على حياة الأثرياء، لكنّها ستضر ببقية سكان البلاد إلى حدٍ كبير.

إذ وجدت الدراسة أنّ الأغنياء كانوا أكثر دعماً لضريبة القيمة المضافة من الفقراء، بوصفها إحدى إجراءات التقشف المالي.

وربما يرجع السبب في ذلك إلى أنّ ضريبة القيمة المضافة هي ضريبة تنازلية في العموم، وتُؤثّر على المواطنين الأفقر بدرجةٍ غير متناسبة.

ربما يميل مواطنو الخليج إلى تفضيل ضريبة القيمة المضافة لأنّهم أكثر ثقة في قدرتهم على استرداد دخلهم الضريبي المفقود من خلال ميزات الوصول إلى قنوات التنويع الاقتصادي.

وبغض النظر عن تفسير ذلك، تُشير النتائج إلى أنّ الجمهور الخليجي الأقل ثراءً ربما يُقدّم دعماً خاصاً لضريبة دخل تقدُّمية يتحمّل فيها الأفراد الأكثر ثراءً العبء الأكبر. 

ومن المُرجّح أن تُؤدّي زيادة الشفافية في الإنفاق الحكومي إجمالاً، أو إدخال آلية واضحة لإشراف المواطنين على الإيرادات الضريبية (بعيداً عن عائدات الموارد)، إلى تعزيز الدعم الشعبي لفرض الضرائب بين كافة فئات المجتمع.

ويجب أنّ تسترعي النتائج الأخرى قلق صُنّاع القرار السعوديين. فلا شكّ أنّ أكثر النتائج التي عثرت عليها الدراسة هي أنّ تصوّرات عدم المساواة الاقتصادية تُمثّل القوة الدافعة وراء تفضيل مواطني الخليج للإصلاح المالي. 

وكشفت بيانات الرأي عن مدى وعي الناس وكُرههم للإنفاق الحكومي غير الخاضع للرقابة، وخاصةً الإنفاق على السياسة الخارجية والاستثمارات التي لا يُنظر إليها على أنّها ذات منفعةٍ عامة مُباشرة، في وقت تُطالب الحكومة الناس العاديين بتقديم التضحيات الاقتصادية.

ولكن في غياب الرقابة، مثّل الإنفاق الخارجي المُسرف سمةً مُميِّزة للمبادرات التي تزعّمها الحاكم الفعلي للمملكة الأمير محمد بن سلمان منذ صعوده إلى السلطة عام 2015. وشملت قائمة القرارات المشؤومة والمُكلّفة للغاية: حرب اليمن المُدمّرة، والحظر الاقتصادي المُتواصل الذي لا داعي له على قطر، والاستثمارات المُضاربة الخاسرة عبر صندوق الثروة السيادي الذي يُسيطر عليه شخصياً، وحرب أسعار النفط التي استمرت لـ10 أيام مؤخراً ضد روسيا وملأت خزانات أسواق النفط العالمية بمعدلات لم نشهدها منذ عقدين. 

أما التدفقات المالية الضخمة الأخرى إلى خارج السعودية فذهبت لدعم الأحزاب في الصراعات السياسية الخارجية -داخل سوريا ومصر ولبنان وليبيا مؤخراً.

وتُشير البيانات التي جمعتها مؤسسة Stockholm International Peace Research Institute لأبحاث السلطة إلى أنّ الإنفاق العسكري السعودي بين عامي 2015 و2019 وصل إلى نحو 364 مليار دولار. مما يجعل المملكة العربية السعودية الدولة الأولى على العالم من حيث نسبة الإنفاق العسكري للناتج المحلي في تلك الفترة نسبياً، إذ يُمثّل الإنفاق العسكري أكثر من 10% من إجمالي الناتج المحلي للمملكة ونحو 27% من إجمالي الإنفاق الحكومي. 

وللمقارنة، فإنّ العجز المُتوقّع في ميزانية الدولة لعام 2020 يُساوي 61 مليار دولار، وهو العجز الذي يقول القادة السعوديون إنّه يتطلّب من المواطنين تقديم تنازلات اقتصادية “مُؤلمة”.

وبالتالي يتعرّض المواطنون السعوديون لضغوط مُتجدّدة من أجل التخلّي عن مزايا الرفاهية العرفية من أجل المصلحة الكُبرى للمملكة، ويتساءل الشخص حول ما إذا كان أعضاء المجتمع أو آل سعود سيبدأون في المُطالبة بخفض ميزانية محمد بن سلمان التي تبدو وكأنّها غير محدودة.

وترتبط إخفاقات محمد بن سلمان الخارجية مباشرةً بواحدةٍ من روايتين: أولاهما التورّط السعودي في اليمن وسوريا ولبنان، والثانية الحصار الذي فرض على قطر مؤخراً ورعاية السعودية للفصائل المناهضة لقطر، وكذلك المناهضة لجماعة الإخوان المسلمين في مصر وليبيا. 

ولاشكّ أنّ الخروج من تلك المسارح العسكرية والسياسية سيُوفّر سيولةً نقدية كبيرة ربما تُجنّب السعودية الحاجة إلى اللجوء لخفض الإنفاق على الرفاهية، وبالتالي تعزيز -أو الحفاظ على- قاعدة الدعم الشعبية من الناحية الاقتصادية. وعلى الجانب الآخر، فإنّ الابتعاد عن قاعدة الحرب مُفرِطة القومية التي حافظت عليها السعودية منذ الربيع العربي -وخاصةً في عهد بن سلمان- ستُقوّض عقداً كاملاً من السياسات الوقائية التي ركّزت على دور الدولة في توفير الأمن والاستقرار داخل منطقةٍ تُعاني من الفوضى.

وفي الوقت ذاته في حال واصلت السعودية تخصيص موارد هائلة للعمليات العسكرية والأمنية في الخارج، فسوف تزداد السعودية فقراً وفقاً للمقاييس الإقليمية، ولن تعود قادرةً على الوفاء بالتطلّعات الاقتصادية لمواطنيها أو حتى احترام العقد الاجتماعي الخليجي الضمني الذي ينُصّ على تقديم الرعاية المالية في مُقابل الولاء السياسي. وبالنسبة لمحمد بن سلمان والعائلة الحاكمة السعودية، ستبدو تلك الصورة العارية أكثر سوءاً من سياسة تدخُّل طائشة من الناحية المالية.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى