تقارير وملفات إضافية

لو أن كورونا زلزال فتوابعه أكثر خطورة.. فما قصة الموجة الثانية من الوباء؟

“موجة ثانية من الوباء القاتل” أصبحت العبارة الأكثر تردداً وكأن الموجة الأولى قد انتهت بالفعل، لكن اللافت هو أن حديث “الموجة الثانية” يغلب عليه الطابع الجيوسياسي، فما أكثر السيناريوهات السياسية التي يخشاها العالم؟

مجلة ذى أتلانتيك الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: “الموجة الجيوسياسية الثانية من الوباء”، أعده توم ماكتيغ مؤلف كتاب “رهان البيت الأبيض.. القصة الداخلية لانتخابات 2017″، ألقى الضوء على السيناريوهات المتوقعة لتبعات الموجة الثانية من الوباء من الناحية الجيوسياسية.

مع ثقة أغلب دول أوروبا في أنها تجاوزت الجزء السيئ من جائحة كورونا، يلتفت انتباههم إلى فرص عودة ظهوره من جديدٍ بعد أن تبدأ المجتمعات في العودة إلى طبيعتها بقدرٍ ما، لكن وراء التحديات الوبائية يتنامى ببطءٍ تهديدٌ ليس من النوع المرضي، بل من النوع الاقتصادي والسياسي والعسكري، وتلك هي الموجة الجيوسياسية الثانية من الوباء، وقد بدأت قوتها تُثير قلق القادة الغربيين بالفعل.

تخيل السيناريو الآتي: بمجرد أن تبدأ أوروبا وأمريكا في الشعور بأنهما قد بدآ بالسيطرة على فيروس كورونا، يستوطن الوباء في الدول النامية، ولأن الدول الأغنى ستكون مُستنزفةً، وغارقةً في الديون، وتستميت لإنعاش اقتصادها؛ فستكون يد العون التي تمدها بطيئةً جداً. نتيجة للذعر، ستحدث هجراتٌ واسعةٌ جنوب أوروبا، التي ستكون لا تزال تُكافح لتُخرج نفسها من الركود الناجم عن أزمة فيروس كورونا. وفي مكانٍ ما ستتخلف دولةٌ ما عن سداد ديونها التي يعود معظمها لمؤسساتٍ ماليةٍ غربيةٍ، وفي ظل تلك الفوضى سيرى مستبدٌّ ما فرصةً لضم أرضٍ ما. وبعدم رغبة الولايات المتحدة في تصدر المشهد، تكون الفرصة سانحةً أمام الصين لملء الفراغ.

ذلك سيناريو واحدٌ (مُختلقٌ) من بين عددٍ من السيناريوهات التي تُثير القلق في العواصم الغربية والتي قُدمت لي في محادثةٍ مع أكثر من ستةٍ من خبراء الأمن البارزين، والأكاديميين، ومستشاري الحكومات في الأسابيع الأخيرة، ومن بين أولئك الذين تحدثت معهم قليلون شككوا في قدوم موجةٍ ثانيةٍ. لكن القلق الحقيقي كان حول المكان الذي ستضربه.

يسير التاريخ -كما قال باراك أوباما عن التقدم الأمريكي- في مسارٍ متعرجٍ، وتُطلق التغييرات الكُبرى سلاسل من التفاعلات المتعاقبة: أطلق انهيار بورصة وول ستريت عام 1929 عصر الصفقة الجديدة، وخلق انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عام 1945 الظروف المناسبة للحرب الباردة، فكل حدثٍ يخلق تبعاتٍ سياسيةٍ وصيحاتٍ لا يُمكننا رؤيتها بوضوحٍ إلا بعد وقوعها.

وشهد العقد الذي تلا أزمة 2008 الاقتصادية ترنح منطقة اليورو على حافة الانهيار، وتصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، ووصول دونالد ترامب للرئاسة، واليوم يشهد الاقتصاد العالمي نوبةً أخرى، محولةً المناخ الجيوسياسي، في ظل تصاعد التوتر بين الصين والولايات المتحدة، وتباطؤ التجارة بشكلٍ ملحوظٍ، واتساع الصدع البنيوي بين شمال وجنوب أوروبا. والسؤال إذاً: ما الذي قد يحدث في العقد الذي سيلي الأزمة الحالية؟

يقول روبرت كابلان، خبير العلاقات الأجنبية الأمريكي والعضو السابق في مجلس سياسة الدفاع الأمريكي، الذي قدم موجزاً هذا الشهر للمسؤولين في مقر الحكومة البريطانية حول التأثيرات المحتملة للموجة الثانية من أزمة فيروس كورونا: “يُحب المؤرخون الأحداث الفارقة في التاريخ، وسيُصبح مرض كوفيد-19 واحداً من تلك الأحداث”.

ومن بين المخاوف التي لدى كابلان واحدٌ يتعلق بكيفية تصرف روسيا وقائدها فلاديمير بوتين، وهو خوفٌ تردده بعض أكثر الأصوات تأثيراً في دوائر السياسة الخارجية البريطانية، التي تخشى أن تكون أوروبا قلب الموجة الثانية من فيروس كورونا. قال لي مايكل كلارك، أستاذ الدراسات الدفاعية في جامعة كينغز كوليدج بلندن، والمستشار الخاص السابق للجنة القومية البريطانية للاستراتيجيات الأمنية، والذي لا يزال على صلةٍ بمؤسسات السياسة الخارجية في البلاد، إن روسيا التي ضعف اقتصادها بعد انهيار أسعار النفط الذي وقع مؤخراً، تُشكل خطراً أكبر على المصالح الأمنية الغربية. وأضاف: “على الأرجح سيزيد جشع بوتين العدواني. إن الطبيعة القيادية لبوتين تجعله لا يستطيع الاكتفاء بالوقوف متفرجاً، بل يستمر دائماً بالضغط قُدُماً. يجعله ذلك أقل استقراراً”.

فما الذي سيحدث لو أن الرئيس الروسي، مدفوعاً بانهيار اقتصاد بلاده، رأى فرصةً لاختبار عزم حلف شمال الأطلسي؟ آخرون مثل برونو ماسياس، وزير الشؤون الأوروبية البرتغالي السابق، قالوا لي إن الأزمة قد لا تزيد من جرأة روسيا، بل ربما تشلها، لتتركها أكثر اعتماديةً على الصين، وجالبةً دائرة نفوذ بكين إلى حدود القارة الأوروبية. يقول كابلان: “الأزمات تُسرع من مرور التاريخ”.

إن مجموعة الاحتمالات الممكنة لتبعات الموجة الثانية تُثير الذهول: فاحتمالية استيطان المرض في دولةٍ ناميةٍ من أعضاء G20، مثل الهند مثلاً، والتي قد تشهد عودةً مضاعفةً للفيروس في أوروبا والولايات المتحدة، والتأثير غير الأكيد للتقدم التكنولوجي في مجالاتٍ مثل الذكاء الصناعي فيما يُستخدم لمواجهة المرض، وركودٌ يوسع الهوة في العلاقات بين جنوب أوروبا الفقير وشمالها الثري.

ويقلق كلارك تحديداً من قوسٍ من عدم الاستقرار يمتد من غرب إفريقيا عبر الشرق الأوسط إلى آسيا، حيث أجبرت النزاعات العديد من السكان على الفرار خلال السنوات الماضية، وقالت لي كارين فون هيبل، المدير العام لمعهد الخدمات المتحدة الملكي، مركز الأفكار البريطاني البارز المختص بشؤون الدفاع والسياسات الدولية، إن “بعض التسوية مع الصين” تظل احتمالاً راجحاً كذلك، وتابعت: “ستقوم بعض الدول من هذه الأزمة محاولةً التشبث بالصين… لكن أغلب البقية سيُحاولون على الأرجح الانفصال عن غيرهم”.

وبالنسبة لبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وغيرها من الاقتصادات الأوروبية الكبرى التي تحاول الاستمتاع بمظلة الحماية العسكرية الأمريكية والإبقاء على علاقاتٍ تجاريةٍ جيدةٍ مع الصين فربما لن تزداد إدارة تداعيات خطاب إدارة ترامب المناهض للصين إلا  صعوبةً.

ذلك عالم سيتعين فيه على دولٍ مثل بريطانيا التفكير في رؤاها الاستراتيجية، وقد تكون بعض التحديات جديدةً تماماً، لكن غيرها ستكون تحدياتٍ حاصلةً بالفعل سيُسرعها الوباء، مثل تدهور العلاقات بين واشنطن وبكين.

ومع ذلك، فإن هناك واقعاً ضمنياً بسيطاً أكثر من أي شيءٍ للموجة الجيوسياسية الثانية: النقد أو نقصه. يقول مستشارٌ بارزٌ للحكومة البريطانية، طلب عدم الإفصاح عن اسمه للتحدث بصراحةٍ عن المداولات الداخلية: “لديك الكثير من المشاكل وليس لديك ما يكفي من المال للتعامل معها”.

وبعد أكثر من عقدٍ من خفض النفقات العامة، فإن القدرة العسكرية البريطانية على مساعدة الولايات المتحدة لغزو العراق وأفغانستان منذ أقل من 20 عاماً قد تحولت إلى قوة “غاراتٍ” غير قادرةٍ على إعالة نفسها أكثر من ستة أشهرٍ خارج أوروبا، وفقاً لكلارك.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى