تقارير وملفات إضافية

“الحرب أثبتت حماقتها”.. لماذا يجب على أمريكا البحث عن نهج جديد في علاقاتها التجارية مع الصين؟

تسعى السياسة التجارية الأمريكية الحالية إلى إملاء الشروط بواسطة التعريفات الجمركية والعقوبات الاقتصادية، لا القيادة بواسطة الابتكار والتحالفات متعددة الأطراف لتحقيق الأهداف المشتركة. وتقدم الحرب التجارية مع الصين، التي بدأت في عام 2018، أجلى مثال على حماقة هذا النهج، غير أنها تطرح في الآن ذاته استبصارات ورؤى حول سياسة تجارية أكثر تحلياً بالمسؤولية في عالم نادراً ما يكون فيه البحث عن الأرباح والعمل على ابتكارات جديدة لعبة محصلتها صفر يتساوى فيها الربح والخسارة، كما يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي.

إن الفكرة القائلة بأن الحرب التجارية لترامب أثبتت نجاحاً ليست لها علاقة بالأرقام التي يستدل بها على ذلك النجاح. إذ أولاً، بسبب ارتفاع معدلات شيخوخة السكان في الصين، إلى جانب ارتفاع الأجور، كان مصنِّعو المنسوجات وشركات الإلكترونيات قد شرعوا بالفعل في مغادرة الصين إلى أماكن توفر عمالة أرخص، في دول مثل فيتنام، وذلك قبل اندلاع الحرب التجارية.

وقد أعلنت شركة Samsung وحدها عن استثمارات بقيمة 2.5 مليون دولار في فيتنام، في طليعة عام 2017. وتوقعت دراسة لشركة Deloitte في عام 2016، أن ترتفع كل من فيتنام والهند بمقدار ست نقاط فيما يتعلق بالقدرات التنافسية لقطاع التصنيع بحلول عام 2020، وذلك استناداً إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج في الصين، بسبب “الطبقة المتوسطة متسارعة النمو” والجنوح الصيني تجاه الصناعات عالية التقنية.

ثم أثبتت الأيام صحة هذا التوقع: فقد جاءت بيانات “المنتدى الاقتصادي العالمي” لتصنّف فيتنام بوصفها الدولة الأكثر تحسناً من حيث القدرة التنافسية في عام 2019. كما أن دعم أوباما لـ”اتفاق الشراكة الاقتصادية عبر المحيط الهادئ” (TPP) كان إقراراً صريحاً بهجرة التصنيع إلى جنوب شرق آسيا ورغبة الولايات المتحدة في دعم قواعد تجارية أكثر مواتاة لها.

ثانياً، أظهرت بيانات الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) التي نشرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تدفقَ 81.8 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الصين خلال النصف الأول من عام 2019، على الرغم من الحرب التجارية المستمرة آنذاك. وهذا بالفعل انخفاض كبير مقارنةً بـ125.6 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال النصف الأول من عام 2018، إلا أنه، مع ذلك، ليس تدهوراً مدمراً كما يقول بعض أصحاب المواقف المتشددة من الصين في واشنطن، علاوة على أن الأرجح أن تقلصات النمو كانت بسبب انخفاض نمو الائتمان وقرار الصين بالاستثمار في الشركات المملوكة للدولة عند عرض أسهمها.

أمَّا الخسائر الحقيقية لحرب تجارية غير فعالة مع الصين، فقد تحملها الاقتصاد الأمريكي، فضلاً عن تداعيات تفاقم التوترات الدبلوماسية بين أكبر الاقتصادات في العالم. فبالإضافة إلى ارتفاع التكاليف على المستهلكين الأمريكيين، أضرت الحرب التجارية بالصادرات الأمريكية، خاصة الصادرات الزراعية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى التعريفات الانتقامية الصينية التي فرضتها الصين على الغاز الطبيعي المسال.

لكن كيف سيبدو نهج السياسة التجارية الذي يقدّر قيادة متعددة الأطراف والابتكار لحل المشكلات الاقتصادية، بدلاً من نهج العقوبات والإكراه المتهور؟

أولاً، هذا النهج سيقر بأن سياسات التجارة والتكنولوجيا الأمريكية يتعين عليها أن تقدر الابتكار والإبداع لا العزلة والاستئثار بالإنجازات في القطاعات ذات الصلة. يتعين على الشركات الأمريكية حالياً الحصول على ترخيص حكومي لتصدير منتجاتها إلى شركة الاتصالات الصينية العملاقة “هواوي” Huawei، التي باتت منذ الأسبوع الماضي يُحظر عليها استخدام البرامج الأمريكية. 

وفي حين أن تلك الإجراءات تهدف إلى جلب هواوي وبكين إلى طاولة المفاوضات، وإن بتكلفة دبلوماسية ومالية باهظة، فإن الاستمرار في تلك الإجراءات دون التوصل إلى حل يخاطر بإنفاذ الصين تهديداتها الخاصة بالتخلي عن الشركات الأمريكية، خاصة في قطاع أشباه الموصلات، والموردين الأمريكيين غير الموثوق بهم بالنسبة إليها من منتجاتها، والعمل عوضاً عن ذلك على تواصل الابتكارات بدونهم. ومن ثم، فإن السياسة التي ترمي إلى الحد من نهوض صناعة أشباه موصلات صينية مستقلة بالاعتماد على سرقات الملكية الفكرية والدعم الخارجي، قد يدفع الشركات الصينية قدماً من غير قصد، من خلال إجبارها على تطوير تقنيات جديدة من جانب واحد.

وفي النهاية، لن يكون دفعُ الابتكار قدماً لعبةً بدون أرباح للشركات الصينية، حتى ولو في جانب واحد بطريقة غير عادلة. إذ من الواضح أن الدافع لمواجهة هواوي يمتد إلى ما وراء مجرد الاستخدامات الشائنة للتقنيات أو انتهاكات العقوبات أو سياسات التجارة غير العادلة، والواقع أنه يرجع بالأساس إلى الرأي القائل بأن هواوي نفسها تمثل صعود الصين في العالم. ولهذا السبب، صرّح مستشار ترامب السابق، ستيف بانون، بأولوية علنية لتدمير هواوي، على التوصل إلى صفقة تجارية مع الصين.

ثانياً، السياسة التجارية الأمريكية التي تقدر المعايير الدولية ستعمد إلى استنفاد كل قناة متاحة لتسوية النزاعات، قبل أن تنخرط في حرب تجارية تضر بصالح مواطنيها. إذ بدلاً من اتباع نهج يركز على قنوات “منظمة التجارة العالمية” أولاً، اندفعت واشنطن من جانب واحد إلى الانخراط في حرب تجارية لا تزال مستمرة. وقد أدى ذلك بالولايات المتحدة والصين إلى الدخول في اتفاقية اقتصادية وتجارية مبدئية في فبراير/شباط 2020 تتجاوز حدود قواعد منظمة التجارة العالمية فيما يتعلق بمعالجة عمليات نقل التكنولوجيا، ولكنها تتضمن في العموم أحكاماً كان يمكن تسويتها من خلال المنظمة كخطوة أولى نحو جهد متعدد الأطراف لمحاسبة الصين على مخالفاتها.

ثالثاً، في هذا النهج، ستستفيد السياسة التجارية الأمريكية الذكية من المزايا الاقتصادية والسياسية لسلاسل الإمداد والمشاركة الاقتصادية الخاصة بها. إذ يتجاهل مؤيدو حرمان الصين من سلاسل التوريد الأمريكية، بهدف خفض احتياطياتها من العملات الأجنبية، أن التكامل الاقتصادي مع الصين يوفر مساراً لتفادي تصاعد الصراعات في المستقبل، كما ينتقصون من أهمية هذا التكامل للشركات الأمريكية أيضاً، وهو ما يبرز بوضوح في الحجم الهائل من طلبات استبعاد المنتجات الخاضعة لتعريفات “البند 301” [أحد بنود “قانون التجارة والتنافس” لعام 1974، وهو أداة تجارية ترجع إلى ما قبل إنشاء منظمة التجارة العالمية 1995، وتسمح للرئيس الأمريكي بفرض تعريفات جمركية ضخمة وقيود تجارية من جانب واحد، على الشركاء الذين يُعتقد أنهم يتمتعون بمزايا غير عادلة، وهي في حالة الصين انتهاك حقوق الملكية الفكرية لشركات أمريكية في تكنولوجياتها، وممارسات تجارية مخالفة أخرى].

رابعاً، السياسة التجارية الأمريكية التي تعكس طموحات واشنطن لتحسين الأمن العالمي ودعم التنمية، وفي الوقت نفسه تحترم مصالح دافع الضرائب الأمريكي، ستقر بأن الولايات المتحدة لا تستطيع تطوير العالم كله بمفردها. وكما أن النموذج الصيني للتنمية الدولية يهدف إلى تعزيز المصالح الصينية ونفوذها، فإن واشنطن تشترك في أهداف مماثلة فيما يتعلق بدعم مصالح الولايات المتحدة.

والحال أن النموذج الصيني للتنمية شديد الاستغلالية، وفقاً لما تبرزه مقارنةُ قروض البنك الدولي مع متوسط شروط القروض الصينية في جنوب آسيا، من حيث إنها مستحقة السداد بنحو 4.9 سنة أسرع وتتضمن فترة سماح أقصر بمتوسط 3.4 سنة، ومعدل فائدة أعلى مرتين من تلك المتاحة في “البنك الدولي”.

ومع ذلك، فإن الدعم الذي تقدمه “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” ينطوي أيضاً على مشكلات كبيرة، وكثيراً ما يؤدي إلى نتائج مخيفة، وليس أقلها التلاعب في الأسعار بسبب سوء الإدارة، كمعادل للفساد الداخلي الذي ينطوي عليه النموذج الصيني. فعلى سبيل المثال، أسفرت مساعدات “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” -بلغت قيمتها الإجمالية نحو 6 ملايين دولار- عن بناء ست مدارس فقط في مقاطعة السند الباكستانية، بسبب سوء إدارة عمليات البناء، وتوجيه عطاءات المشروعات بطريقة غير تنافسية إلى حد كبير.

كما أن مشروعات التنمية الأمريكية تتجاهل الحقائق المحلية، على حساب المستفيدين منها. في المقابل، يعمد النموذج الصيني إلى الاهتمام بتحقيق نتائج ملموسة على المدى القصير، مثل محطات توليد الطاقة بالفحم التي باتت تولد الكهرباء في باكستان. ومن ثم، فإن تحذير الدول النامية مما تنطوي عليه القروض الصينية من قنابل موقوتة يظل أمراً غير مقنع ما دام لم يُطرح معه البديل.

في نهاية المطاف، تنبع دعوات واشنطن للصين -بشأن التحرير الكامل لاقتصادها- من مخاوف تتعلق بطموحات هيمنة صينية، وهي مخاوف لا تزال سارية على الرغم من نفي بكين الواضح لها. ومع ذلك، فإن صناع القرار الأمريكيين يجب عليهم أن يسألوا أنفسهم كيف تمكنت الصين من أن تصبح تهديداً حقيقياً لأسبقية الولايات المتحدة، من خلال ابتعادها عن الصراعات منخفضة الحدة [التي تقع بين اثنتين أو أكثر من الدول أو المجموعات من غير الدول، وتتسم بأنها أقل كثافة من الحروب التقليدية بين الدول]، وهي الصراعات التي أنفقت فيها واشنطن تريليونات من الدولارات لأسباب تتعلق في جزء كبير منها بالحفاظ على الهيمنة؟

إن السياسة التجارية التي تولي الاهتمام إلى الابتكارات الأمريكية وتقوية المؤسسات التجارية متعددة الأطراف لا تعني على أي نحو الاقتراب من الصين أو أي دولة غيرها بسذاجة. وقد توفر التعريفات الجمركية الحمائية والضربات الاقتصادية والعقوبات حلاً قصير المدى ومريحاً ضمن سياسات تنفيث الضغوط السياسية الأمريكية، لكن هذا النهج ليس له فاعلية على المدى الطويل. ومن ثم، فإن الخيار الأفضل لإجبار القوى العالمية الأخرى على التخلي عن السياسات الاقتصادية “الخبيثة”، هو تحديها من خلال المنتديات الدولية راسخة الجذور، وتقديم بديل متفوق، والعمل معاً على تحقيق الأهداف المشتركة كلما أمكن ذلك.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى