منوعات

“ليس مغازلة بل واجباً قومياً”.. لماذا أصبح إعطاء المرأة الألمانية رقمها للغرباء إلزامياً في زمن كورونا؟

“أعطيتُ رقمي للكثير من الغرباء على مدار الأسبوع الماضي، دوَّنته لعامل الكافيتيريا الذي أعدَّ مشروب اللاتيه الخاص بي في صباح أحد الأيام، وأعطيته للنادل الذي سجَّل أول حجزٍ لي في مطعمٍ منذ أكثر من شهرين”.

أصبح هذا المشهد مكرراً في حياة كل النساء الألمان، حسبما تقول كاترين بينهولد، مديرة مكتب صحيفة New York Times في برلين في مقال لها حول طبيعة الحياة في زمن الجائحة، شرحت فيه الإجراءات الاحترازية بألمانيا بعد تخفيف إغلاقات كورونا.

تقول: “أعطيترقمي كذلك لمُصفِّف الشعر، ولبائع الآيس كريم، وحتى للرجل الواقف خلف نافذة الزجاج الشبكي في المسبح الذي أُعيد فتحه للتو”. 

قال لي: “قناعك الواقي رائع عليكِ”، غامزاً إليَّ من تحت قناعه في واحدةٍ من تلك المحادثات اليومية التي لا تصدِّق أنك تخوضها. 

أقسم أنني لم أكن أغازل، كنت فقط أحاول قضاء بعض الوقت في السباحة. 

تنهض برلين من إغلاقٍ كاملٍ جرَّاء فيروس كورونا المُستجَد، وثمن هذه الحرية، بالإضافة إلى ثمن الحصول على جزءٍ من حياتك ما قبل تفشي الفيروس -ليلة بالخارج مع زوجك، وقصة شعر جديدة (نعم قصة شعر!)- هو أن تسلمي رقم هاتفك. 

يمكنكم أن تطلقوا على هذا اسم سجلات كورونا، حيث أصبح تسجيل مَن كان أين، ومتى، ولأيِّ فترةٍ؟ إلزامياً، حتى يتمكَّن المُحقِّقون التابعون للسلطات الصحية الألمانية من تعقُّب المخالطين للشخص المُصاب حديثاً. 

يُعَدُّ هذا جانباً تبدو فيه ألمانيا على غير طبيعتها. ففي بلدٍ تُعتَبَر فيه الخصوصية وكأنها جزءٌ من دينٍ قومي، يقوم الألمان الآن بتسليم عناوينهم الخاصة في كلِّ منعطفٍ في حياتهم اليومية. 

في مقهى Refinery، وهو مقهى قريبٌ من نهر سبري في وسط برلين، كانت سابين باوم، وهي مُصمِّمة غرافيك، تضيف تفاصيلها إلى قائمةٍ مكتوبة بخط يدٍ صغير للغاية على منضدةٍ، بينما كانت تنتظر حساءها في صباح أحد الأيام القريبة. 

قالت: “يبدو الأمر على ما يرام بطريقةٍ ما، لأن هذا فقط على الورق وليس على الإنترنت” (في إشارة إلى أنها تمارس أخيراً نشاطاً حقيقياً وليس افتراضياً). 

إن التوقَ إلى العودة للحياة الطبيعية حافزٌ قوي على التعامل مع الأمور التي كانت في مطلع مارس/آذار تبدو إما غير مقبولة وإما سخيفة تماماً للكثير من الألمان، مثل ارتداء القناع الواقي (الكمامة) في الساونا، إذ قد يصبح ارتداء الأقنعة إلزامياً حين تُفتَح صالات الساونا من جديد الشهر المقبل. 

لطالما كان الإغلاق في برلين أهون مِمَّا كان عليه في العواصم المُجاوِرة. كانت الشوارع والمُتنزَّهات خاوية، لكن ليس تماماً. 

لكن بادئ ذي بدء، لم تكن الشوارع والمُتنزَّهات مزدحمةً من الأصل. تُعَدُّ برلين مدينةً هادئة، وأقل اكتظاظاً بالسُّكَّان من مانهاتن أو لندن، أو مقارنةً بالكثير من المدن الآسيوية. وقبل ظهور الفيروس بفترةٍ طويلة كان التباعد الاجتماعي هو القاعدة في الكثير من المناطق -إذا جاز لنا التعبير- مثلما في بوابة براندنبورغ. 

هناك لحظاتٌ شعرت فيها ألمانيا أنها تقريباً مدينة طبيعية، حيث يسير الأطفال إلى مدارسهم في الصباح، والمطاعم تزدحم بالليل، وحفلات الزفاف في الحدائق العامة، وكانت هناك ساعات ذروة يذهب فيها الناس إلى مكاتبهم الحقيقية بدلاً من المكاتب المنزلية. 

هناك مسبحٌ واحد به إشارة مرور بالخارج لتنظيم عدد الناس بالداخل. وآلات البيع التي اعتادت بيع الحلوى والواقيات الذكرية الآن تبيع المُطهِّرات والأقنعة الواقية. وأزاح أحد المسارح 500 مقعد من أصل 700 للسماح بالتباعد بين الحاضرين أثناء العروض. 

في مُتنزَّه تييرغارتن، المُكافئ البرليني للسنترال بارك في نيويورك، فتحت حديقة الجعَّة من جديد. كنت أتمشَّى ذات ظهيرةٍ تجاه طابورٍ من الطاولات على ضفاف بحيرة نوير سي، وهي بحيرة لقوارب التجديف، كان المشهد طبيعياً للغاية، كان خيالياً، كان المُتنزَّه مزدحماً، والأطفال يتبادلون أدوارهم على الأرجوحة، وكان هناك قاربا تجديفٍ يسيران ببطءٍ عبر البحيرة. 

حينها فقط رأيت ألواحَ الزجاج موضوعةً على الطاولات. 

سمعنا أحدهم يقول “أهلاً”، كانت تلك امرأةً عجوزاً تجلس على طاولةٍ بجوارنا، ولوَّحَت بيدها لطفلي البالغ 4 سنوات عبر اللوح الزجاجي. 

كان الرجل عند منصة القوارب يقوم بتطهير حزمةٍ من سترات النجاة، ونحن أيضاً استأجرنا قارباً تلك الظهيرة (بعدما كتبنا أسماءنا وعناويننا ورقم الهاتف على ورقةٍ مطوية). 

سألتني ابنتي ذات الثمانية أعوام بشيءٍ من الشك: “هل يمكنني لمس المجداف؟”، إذ لاحظت أن الزوجين في القارب المجاور يرتديان قفازات مطاطية. 

أعاد سؤالها إلى ذهني شيئاً حدث في ملعب كرة القدم، حين استأنف فريق ابنتي الكبرى تمارينه الشهر الماضي، مايو/أيار. 

قالت ابنتي إيميليا، البالغة 19 عاماً: “يسألني الأطفال: هل يمكننا لمس الكرة؟ هل يمكننا تمرير الكرة؟”. 

لا تبدو كرة القدم في ظلِّ جائحة كورونا، على الأقل لدى الهواة، مثل كرة القدم الحقيقية على الإطلاق. ليس هناك أيُّ مباريات. يتدرَّب الأطفال -سبعة في كلِّ نصف ملعب- بشكلٍ فردي بكُرتهم في مواقع ذات علاماتٍ واضحة، يفصل متران بين إحداها والأخرى. ويُطهَّر المرمى قبل اللعب. 

قالت السيدة راهوس: “إنه أمرٌ مألوفٌ للغاية، لكنه مختلفٌ تماماً”. وخلفها في الجهة المقابلة من الملعب كان علم نادي هيرتا برلين يرفرف، في نسيم بعد الظهيرة، ومكتوب عليه “الشباب هم مستقبلنا”. 

دفعني الشعار إلى التفكير في مجموعات الأمهات على بوابات المدارس في الصباح. أُعيد فتح المدارس، لكن بسبب قواعد التباعد الاجتماعي تتفرَّق الفصول والحصص بشكلٍ جنوني.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى