ثقافة وادب

5 أسباب حالت دون تحوّل كورونا إلى كارثة بحجم الإنفلونزا الإسبانية.. لكن لا يزال علينا التعلُّم من الماضي

نستطيع أن نقول الآن بعد نحو 6 أشهر على انتشار فيروس كوفيد-19 إن مواجهة العالم لكورونا والجوائح الصحية عموماً أفضل كثيراً مما كان عليه البشر قبل 100 عام، حيث كان فيروس الإنفلونزا يقتل الملايين دون أن يستطيع أحد إيقافه.

مثلاً، إذا عدنا بالزمن إلى الفترة بين عامي 1918 و1920، حيث شهد العالم أعنف جائحة في التاريخ الحديث؛ اجتاحت العالم الإنفلونزا الإسبانية مع قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، فأصابت أكثر من ثلث سكان العالم وقتها، وقتلت ما بين 50 إلى 100 مليون شخص. وكان السبب وراء هذه الجائحة هو فيروس H1N1 الموجود بالأساس في الطيور ثم تحوَّر وانتقل إلى البشر.

الآن يشهد العالم جائحة أخرى سببها مرض حيواني قفز من الحيوانات البرية إلى البشر، وهو فيروس تاجي يُعرَف باسم “سارس-كوف-2”. وبينما لا نريد بأي شكل من الأشكال التقليل من مأساة مئات الملايين من البشر التي جلبها هذا الفيروس، فإن هناك أسباباً تدعو للتفاؤل. وإذا استُغِلَت هذه الأسباب بكفاءة، فقد تتخذ هذه المعركة مساراً مختلفاً؛ سيقودنا إلى انخفاض معدلات الإصابة والوفيات.

كتب مجموعة من علماء الأوبئة وعلماء الاجتماع والتاريخ والجغرافيا والتخطيط الحضري والدراسات الآسيوية، مقالاً على موقع The Conversation يلخص دراساتهم حول انتشار جائحة الإنفلونزا الإسبانية في آسيا، وهي منطقة شهدت أكثر عدد وفيات، وطرق مواجهة الجوائح عموماً على مدار المئة عاماً الماضية في هذه المنطقة وصولاً إلى كورونا.

أحدثت مئات السنوات من الابتكار في مجال الاتصالات تغييراً جذرياً في قُدرتنا على تبادل معلومات بالغة الأهمية، إذا عدنا إلى عام 1918، كانت خطوط الهاتف الأولى ما تزال في مرحلة التطوير، وفي الكثير من الأماكن كانت وسيلة الاتصال الوحيدة هي التلغراف، لذلك فإن معظم المعلومات العامة في ذلك الوقت كانت تستمد من الصحف اليومية أو تناقلتها الألسن. 

فتخيل أن أي معلومات عن مرض جديد وأعراضه والفئات السُّكانية المُعرضة بدرجةٍ أكبر لخطر العدوى أو تحذير الناس مما هم بصدد مُواجهته كانت كلها أمور صعبة لا يستطيع معرفتها حتى المتخصصون كي يعرفها عامة الناس مثلما يحدث الآن، لذلك يُمكننا القول إنه لم تكن هناك أية خطط مُوحدة للتصدي للوباء. 

في المُقابل، تمكن العالم في الوقت الحاضر من تتبع هذه الجائحة، وتمكن العلماء على وجه السرعة من تبين من هم الأكثر تعرضاً لخطر التداعيات السلبية للجائحة، كبار السن وأصحاب المناعة الضعيفة أو ممن يُعانون من حالات مرضية مُزمنة مثل الربو وداء السكري وأمراض الرئة أو أمراض القلب الخطيرة. 

هذه المعرفة ليست ضئيلة أبداً؛ لأن بفضلها تمكنت الدول التي سجلت أكبر عدد حالات من تقفي أثر المُخالطين للمرضى وفرض حظر وطني صارم، وسياسات تباعد اجتماعي “سطّحت منحنى” معدلات الإصابة بالمرض والوفيات، كما قللت فرص الإصابات والوفيات في دول أخرى اتخذت استعدادات صحية مبكرة. 

كذلك نبّه الانتشار السريع للبحوث حول هذا الفيروس المُستجد الأطباء لأعراضه الخطيرة مثل، قدرته على إحداث جلطات في الدم وسكتات دماغية، فضلاً عن أعراض مُشابهة لمتلازمة كاواساكي التي تُصيب الأطفال، وهي معلومات مهمة لتقييم حالات المرضى وعلاجهم. 

أحد أسباب تفشي جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 رجع إلى الزحام الشديد وفرص اختلاط الناس الكبيرة. ورُغم أن فيروسات الإنفلونزا انتشرت بأقصى فاعلية مُمكنة في الأجواء الباردة والجافة على حد السواء، إلا أن إنفلونزا عام 1918 تفشت في المناطق الاستوائية بدرجة أكبر بسبب كثافة السكان كما أظهرت الأبحاث، فقد كانت الهند أكثر الدول تضرراً، فيما لقي ما يقرب من 14 مليون شخص مصرعهم في المستعمرات البريطانية في المناطق الاستوائية، وهو 10 أضعاف وفيات كل أوروبا الباردة. 

لكن حالياً، وبفضل وضع بروتوكولات للتصدي للجائحة، تمكنت دول مثل ألمانيا وسنغافورة وكوريا الشمالية من اتخاذ تدابير سريعة لمنع انتقال العدوى عبر فرض حظرٍ كُلي وقواعد للحظرٍ المنزلي وتعليمات فيما يتعلق بالتباعد الاجتماعي. وإلى الآن منعت هذه التدابير أو أبطأت من انتشار العدوى من 62 مليون حالة إصابة مؤكدة، وتفادت 530 مليون حالة إصابة عبر آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية. 

في عام 1918، لاحظت الجهات الاستعمارية للهند أن الفقراء والذين يُعانون من سوء التغذية كانوا أكثر عُرضة للموت جراء الإنفلونزا من الأيسر حالاً، لكن الآن يُمكننا أن نقول إجمالاً، إن الناس في مُختلف أنحاء العالم صاروا يحصلون على تغذية أفضل. 

ورُغم أن حالات سوء التغذية ما زالت تُشكل أزمة عالمية، فإن تقارير مُنظمة الصحة العالمية أفادت بأن مُعدلات استهلاك الطعام اليومية ارتفعت بنسبة 25% بين عامي 1965 و2015. وحيث إن تحسين التغذية يُقوي الجهاز المناعي، فنحن في وضعٍ أفضل يُمكننا من مُكافحة العدوى عما كان عليه أجدادنا عام 1918.

خلال جائحة عام 1918، كانت النساء الحوامل على وجه الخصوص عُرضة لتداعيات الجائحة. أظهرت الإحصاءات التي وردت شهرياً من بعض المدن الأمريكية مثل بافالو ونيويورك حجم المأساة وقتها، ففي ذُروة الجائحة في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1918، زادت حالات الولادة المُبكرة عن الضعف، لتصل إلى 57 حالة ولادة مُبكرة في الشهر الواحد، وارتفعت حالات المواليد الموتى إلى 76 حالة لتزيد بنسبة 81%. وفي ولاية ماساتشوستس، زاد عدد حالات وفيات النساء أثناء الولادة أو بعدها عن ثلاثة أضعاف ما كان عليه سابقاً ليصل إلى 185 حالة. في دراسة أُجريت في ولاية ماريلاند، تُوفيت نصف النساء الحوامل ممن أُصبن بالالتهاب الرئوي

وقد كانوا جميعاً ضمن ديموغرافية اختُصت بأبلغ الضرر، وعموماً أثرت هذه الإنفلونزا على النساء والرجال الأصحاء في مُقتبل عمرهم، من 20 إلى 40 عاماً، أكثر من غيرهم، علاوة على أنها أودت بحياة الكثير من الأطفال دون سن الخامسة.

بيد أن الأمر مُختلف مع فيروس كوفيد-19. رُغم أن الأُمهات الحوامل مُعرضات لمخاطر كبيرة بفعل تفشي الأمراض المُعدية ويجب عليهن اتخاذ المزيد من الإجراءات الوقائية، فإن ليس هُناك دليلاً يُذكر على أن الإصابة بفيروس كوفيد-19 على عملية الولادة أو عملية نمو الجنين أو على الرُّضع أو الأطفال الصغار بنفس الطريقة التي أثرت بها جائحة الإنفلونزا عليهم. فضلاً عن أن فيروس كوفيد-19 أقل فتكاً بالشباب

أصبحت التقنيات الطبية المُعاصرة أكثر تطوراً عما كانت عليه في القرن الماضي. أثناء جائحة عام 1918، تناقش الباحثون حول ما إن كان المرض فيروسيّ أو بكتيري. لم يكن الأطباء قد عرفوا بعد بوجود فيروسات الإنفلونزا. وبدون الفحوصات والأمصال، كانت قدرتهم على منع تفشي الجائحة أو احتوائها محدودة. 

وقد كانت هُناك خيارات علاجية قليلة لمن أُصيبوا بالالتهاب الرئوي، وهو من المُضاعفات الشائعة للإنفلونزا: كان لا يزال هناك سنوات على اكتشاف المُضادات الحيوية، ولم تكن أجهزة التنفس الصناعي مُتوفرة بعد.

لكن مخترعات اليوم تُمكننا من اكتشاف حالات التفشي على وجه السرعة، وتطعيم أعداد غفيرة من الناس ومُعالجة المصابين بأمراضٍ خطيرة على نحوٍ أفضل. فقد تمكن العلماء من اكتشاف تسلسل جينوم فيروس كوفيد-19 خلال السبعة أسابيع الأولى من عزل أول حالة إصابة مُكتشفة في مدينة ووهان في الصين بالمستشفى، وهو ما مكّن من التطوير السريع لاختبارات الفحص وتحديد الأهداف المُحتملة للعلاجات واللقاحات. 

رُغم أن هذه العوامل تبعث على التفائل فضلاً عن أنه من غير المُحتمل أن جائحة كوفيد-19 ستحصد الأرواح بنفس الدرجة التي حصدت بها جائحة إنفلونزا الخنازير لعام 1918، فإن هذا الحدث يُقدم دروساً تحذيرية هامة. 

فبحسب الموقع الجغرافي والتوقيت، ظهرت جائحة الإنفلونزا على شكل موجات، تراوحت مدة كلٍّ منها من أسابيعٍ قليلة إلى شهورٍ قليلة. كما تأثر توقيت ومدة هذه الموجات بطرق النقل والازدحام السُكاني وتدابير التباعد الاجتماعي، ففي بعض الأماكن، استمرت الجائحة لعامين. 

وتُظهر البيانات الصادرة حديثاً، أن مُعدلات الإصابة على مستوى العالم في زيادة مُستمرة. بيد أن حقيقة أن الأمل ما زال معقوداً على احتمالية طرح مصل للفيروس، تدل على التقدم الهائل الذي أحرزته البشرية في هذا القرن منذ تفشي جائحة الإنفلونزا. 

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى