تقارير وملفات إضافية

بعدما تحولت إلى حرب عالمية مصغرة.. هل ينجح قيس سعيد في الحفاظ على حياد تونس تجاه الأزمة الليبية؟

بات الحياد التونسي تجاه الأزمة الليبية يُواجه صعوبات متزايدة، مع تحول الصراع هناك إلى حرب دولية مصغرة.

فالمشكلة التي تواجه الحياد التونسي تجاه الأزمة الليبية ليست فقط في الخلافات الداخلية بشأن الموقف من الأزمة الليبية، بل أيضاً في الموقف السلبي لحفتر وبعض داعميه الدوليين من تونس، حيث يناصبونها العداء باعتبارها مهد الربيع العربي وآخر معقل للديمقراطية في العالم العربي.

بالإضافة إلى ذلك فإنه بعد أن أصبحت ليبيا ساحة صراع بين قوى دولية وإقليمية، أصبح نجاح الحياد التونسي تجاه الأزمة الليبية مرتبطاً بنجاح محاولاتها الحفاظ على التوازن أيضاً، ليس فقط مع القوى الليبية المتصارعة، بل مع القوى الدولية والإقليمية التي تتدخل في ليبيا.

شكّلت زيارة الرئيس التونسي قيس سعيِّد إلى فرنسا، في 22 يونيو/حزيران الماضي، في أول جولة له إلى أوروبا منذ انتخابه في أكتوبر/تشرين الأول 2019، نموذجاً لهذه الصعوبات.

فقد التقى سعيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه بباريس، لمناقشة العلاقات الثنائية بين البلدين، فضلاً عن التطورات الإقليمية، أي الأزمة الليبية.

وخلال مؤتمر صحفي مشترك على هامش اللقاء مع سعيد، أدان ماكرون “اللعبة الخطرة” التي تلعبها تركيا في ليبيا، قائلاً إنَّها تُشكِّل تهديداً مباشراً للمنطقة وأوروبا، فيما بدا أنه تعمُّد من الرئيس الفرنسي للهجوم على أنقرة في حضرة الرئيس التونسي، بحيث يصور صمت  سعيد على أنه موافقة على مواقف ماكرون.

ودعا ماكرون إلى وقف التدخلات الأجنبية والتحركات الأحادية لأولئك الذين يزعمون أنَّهم يحققون مكاسب جديدة في الحرب بليبيا.

وكان لافتاً في المقابل تأكيد سعيّد رفضه لكل التدخلات الأجنبية في ليبيا دون استثناء.

وقال سعيد إنَّ تونس ترفض الاصطفاف خلف أي تحالفات في ليبيا، ودعا إلى حوار، بعيداً عن السلاح والحرب، قائلاً: “السلطة القائمة في طرابلس تقوم على الشرعية الدولية”.

لكنَّه أضاف أنَّ هذه الشرعية مؤقتة، وينبغي أن تحل محلها أخرى “تنبع من إرادة الشعب الليبي”.

ودعا قيس سعيد إلى حل للأزمة الليبية على غرار أفغانستان، يضع في حسبانه دور زعماء القبائل، وهو المقترح الذي لقي انتقادات في تونس وعدد من دول المغرب العربي، (ينظر له على أنه في صالح حفتر).

كما كان لافتاً أنه بالتزامن مع هذه الزيارة، أن تونس تحفظت على مقترح مصري طُرح في اجتماع وزراء الخارجية العرب بشأن ليبيا، الذي عُقد في 23 يونيو/حزيران 2020، يطالب القوى المتصارعة بوقف إطلاق النار وعدم تخطي الخط الأحمر الذي أعلنه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بين سرت والجفرة، وهو ما يعد تأييداً ضمنياً من تونس لرغبة حكومة الوفاق في تحرير سرت من قوات حفتر.

وهو موقف يبدو غير متوقع من تونس الرسمية، التي تؤكد حيادها تجاه الأزمة الليبية، قد يكون ذلك نابعاً من القلق التونسي من أن عدم دخول قوات الوفاق لسرت يرسخ لفكرة تقسيم ليبيا.

وعلى عكس توقعات الكثير من الخبراء التونسيين، لم تُناقش مسألة “الاعتذار الفرنسي” خلال المباحثات بين سعيد وماكرون. 

وكان البرلمان التونسي رفض في 9 يونيو/حزيران، مشروع لائحة تدعو فرنسا للاعتذار عن الجرائم التي ارتكبتها خلال حكمها الاستعماري للبلد الواقع في شمال إفريقيا. ولم يُصوِّت إلا 77 نائباً برلمانياً فقط لصالح المشروع، وهو أقل بكثير من عدد الأصوات الـ109 المطلوبة لتمريره.

وبعد انتهاء زيارة قيس سعيد لفرنسا بأيام، عاد ماكرون لينصّب نفسه متحدثاً باسم تونس.

إذ نسب له قوله إن تركيا تهدد أمن أصدقاء بلاده في مصر وتونس وإفريقيا وأوروبا.

علماً أن تونس لم تعلن يوماً أن التحركات التركية تحديداً تمثل خطراً عليها، حيث إنها ترى الخطر منبعه الوضع الليبي برمته، بل إن الجهة الوحيدة التي هددت تونس هو الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر، الذي سبق أن اعترف في حوار مع قناة فرنسا 24 بُث في شهر يوليو/تموز 2017، بإطلاق سراح كثيرين من عناصر تنظيم داعش الإرهابي، وإجبارهم على الدخول إلى الأراضي التونسية.

وعلى عكس ما قاله ماكرون فإن تونس تنظر بريبة إلى التحركات الفرنسية في المنطقة، حسبما صرح وزير الخارجية الأسبق أحمد ونيس لموقع Al-Monitor الأمريكي.

إذ قال إنَّ تونس لا ترغب في الانحياز لأي طرف، وإنَّ موقفها بشأن ليبيا واضح. وقال: “الذهاب إلى الحرب ستكون له تبعات كارثية على بلدان الجوار”، مشدداً على أنَّ زيارة الرئيس التونسي إلى فرنسا تأتي في وقتٍ يسوده التوتر في مواجهة الوجود الفرنسي في تونس والمنطقة، والتحركات الدبلوماسية الفرنسية المريبة.

وأشار ونيس إلى أنَّ تونس ملتزمة بالحياد في الصراع الدائر في ليبيا، الذي تحوَّل إلى ساحة معركة بين تركيا والقوات التي توجهها الإمارات العربية المتحدة. 

وأوضح أنَّه في حين تملك حركة النهضة، التي تدعم حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة في ليبيا، تحفظات على الحياد التونسي، يدعم الحزب الدستوري الحر رجل شرق ليبيا العسكري القوي خليفة حفتر، ويرفض أي تدخل في ليبيا.

وأثارت زيارة سعيد إلى فرنسا موجةً من الانتقادات.

وقال عبدالجبار المدوري، رئيس التحرير السابق لجريدة “صوت الشعب” التونسية، إنَّ النهضة تعتقد أنَّ دعوة سعيد لزيارة فرنسا محاولة لتحفيز الرئيس للتحرك ضد إسلاميي حركة النهضة المتأثرة بجماعة الإخوان المسلمين. 

ويُعَد سعيد أقل ميلاً لإسلاميي تونس، حسب الموقع الأمريكي.

وقال سليم بسباس، القيادي بالنهضة، إنَّ حزبه يعتبر أنَّ من مصلحة تونس دعم حكومة الوفاق الوطني في مواجهة قوات حفتر. مشيراً إلى أنَّ القوى الكبرى المنخرطة في ليبيا تسعى للسيطرة على ثروات البلاد.

وقال زهير المغزاوي، الأمين العام لحركة الشعب، التي تملك 15 مقعداً من مقاعد في البرلمان البالغة 217، لموقع Al-Monitor، إنَّ أفضل حل لليبيا يكمن في حوارٍ ليبي داخلي وتسوية سياسية، بعيداً عن لغة الحرب. ويشدد على أنَّ الأمن التونسي مرتبط بليبيا مثلما هو الحال مع بقية البلدان المجاورة.

وأشاد المغزاوي بموقف الرئيس سعيد تجاه حكومة الوفاق وشرعيتها المنتهية، مثلما عُبِّر عنه في قصر الإليزيه، قائلاً إنَّه مضى أكثر من 4 سنوات منذ اتفاق الصخيرات السياسي، الذي وُقِّع بين الأطراف الليبية المتحاربة عام 2015 بالمغرب تحت رعاية الأمم المتحدة. وقال إنَّ الاتفاق انتهى وأصبح قابلاً للتجديد.

ووفقاً للاتفاق، تشكَّلت حكومة الوفاق وحُدِّدَت فترة انتقالية تمتد 18 شهراً للحكومة من أجل إنجاز مهامها. وفي حال الفشل في ذلك يمكن تمديد الفترة الانتقالية لستة أشهر إضافية، علماً أن مجلس النواب الذي يقوده عقيلة أيضاً قد انتهت ولايته، وأصبحت شرعيته تعتمد على اتفاق الصخيرات الذي لم يقره المجلس حتى اليوم.

ورغم الاختلافات المتعددة بين الرئيس التونسي قيس سعيد والنهضة، فإن الرئيس التونسي لمّح من قبل إلى رفضه التحريض الخارجي ضد النهضة.

إذ قال الرئيس التونسي قيس سعيّد، يوم الثلاثاء 23 يونيو/حزيران 2020، إن هناك مؤشرات كثيرة لتدخّلات خارجية في تونس، من قِبل قوى تحاول إعادة البلاد إلى الوراء بتواطؤ مع أطراف داخلية”، مشدداً على امتلاكه للعديد من المعلومات التي تؤكد ذلك، وذلك في الوقت الذي يوجّه فيه خبراء تونسيون اتهاماتٍ لحلف تقوده الإمارات بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد.

وتزامنت تصريحات سعيد مع تعرُّض رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي إلى “حملة تشويه مُمنهجة من أطراف إقليمية وداخلية معادية للثورة، وذلك نتيجة لمواقف الغنوشي، وباعتباره يمثّل ضمانةً أساسيةً وصمّام أمان للانتقال الديمقراطي ومسار الثورة في تونس”.

وفي لقاءٍ جرى يوم 22 يونيو/حزيران بين وزير الدفاع التونسي عماد الحزقي وقائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا، الجنرال ستيفن تاونسند، في حضور سفيري الولايات المتحدة لدى تونس وليبيا، أكَّد الحزقي على الموقف التونسي الرسمي الداعم للسلطة الشرعية في ليبيا والحاجة إلى التوصل لتسوية سياسية.

كانت الجزائر ومصر وتركيا، إلى جانب الولايات المتحدة وقادة الاتحاد الأوروبي، قد شاركوا في يوم 19 يناير/كانون الثاني الماضي في مؤتمرٍ بشأن ليبيا، استضافته العاصمة الألمانية برلين. وكان من اللافت غياب تونس، التي رفضت دعوة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وقال سعيد آنذاك، متحدثاً للتلفزيون التونسي الرسمي، إنَّ الدعوة الألمانية جاءت متأخرة.

ومنذ مؤتمر برلين، رفضت تونس أي تدخل عسكري أجنبي في ليبيا، داعيةً إلى الحوار الداخلي بين الأطراف المتحاربة من أجل التوصل إلى حل سياسي. وتخشى تونس من أن يكون لأي تصعيد عسكري في ليبيا تداعيات سلبية على وضعها الداخلي.

وعلى الرغم من التحفظات التي عبَّرت عنها الأطراف التونسية فيما يتعلَّق بدعم حفتر أو السراج في ليبيا، تعتقد السلطات التونسية أنَّ الحل يكمن في الحوار الليبي الداخلي. وتدعو كذلك البلدان المتصارعة في ليبيا لإنهاء الحرب والسماح للشعب الليبي باختيار مصيره، بعيداً عن المحور التركي-القطري الداعم للسراج، أو المحور السعودي- المصري- الإماراتي الداعم لحفتر، وبعيداً حتى عن روسيا وفرنسا.

وأصبحت الخلافات بين الأحزاب التونسية حول الأزمة الليبية بمثابة محور الاستقطاب السياسي في البلاد، إلى درجة أن البعض بات يرى أنها تهدد تجربة الديمقراطية.

وبينما تلتزم الرئاسة التونسية الحياد تجاه الأزمة الليبية، فإن أنصار حفتر لا يُخفون عداءهم لتونس، حتى إن بعضهم توعَّد بالهجوم عليها بعد الانتهاء من طرابلس.

 ويرجع هذا العداء إلى أن حالة الوفاق التي نجحت القوى السياسية الكبرى في الوصول إليها بتونس، على الرغم من صراعاتها الأيديولوجية واختلافاتها السياسية، هي النقيض لنموذج حفتر الإقصائي.

إذ إن لسان حال حفتر يقول لليبيين لا بديل للوضع الحالي إلا “حكمي المستبد”.

ولكن النموذج التونسي يقدم بديلاً ثالثاً لليبيين عبر حل مشكلة الصراع الدموي الذي تعيشه ليبيا من خلال التعددية السياسية.

وهذه أيضاً مشكلة رعاة حفتر في المشرق العربي مع تونس، ومع المغرب العربي برمته، حيث توجد درجات متفاوتة من الأنظمة الديمقراطية أو شبه الديمقراطية، تعرف تعايشاً بين الإسلاميين المعتدلين من جانب وبين القوى الليبرالية واليسارية والحكومات وأنصارها من أبناء الدولة العميقة من جانب آخر، وهو أمر مختلف تماماً عن الطرح الذي تقدمه السعودية والإمارات ومصر ومعهم سوريا، الذي يقوم على الاستبداد والإقصاء.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى