تقارير وملفات إضافية

لماذا غيرت فرنسا موقفها من ليبيا؟ فاغنر دخلت “المحظور” فانقلب ماكرون على حفتر وروسيا!

بعد أن كانت أكبر داعميه الأوروبيين دبلوماسياً ولوجيستياً، وصمتتْ عن التجاوزات التي قام بها رجالُه، تبرَّأت فرنسا أخيراً من اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ولكن بعد ماذا؟ ولماذا الآن؟

فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي راهن على حفتر في الدفاع عن مصالح بلاده وشركاتها النفطية في ليبيا، ها هو اليوم على وشك أن يخسر آخر أوراقه.

ففي ندوة صحفية مشتركة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل نفى ماكرون بوضوح دعمه لحفتر، وأعلن عدم رضاه عن هجومه على العاصمة طرابلس، في 4 أبريل/نيسان 2019.

وبعد أن واصل هجومه المتكرر على تركيا التي أجهضت مشاريعه الاستراتيجية في ليبيا، انتقد ماكرون لأول مرة روسيا، حليفته “السابقة” في دعم حفتر، وشركتها الأمنية فاغنر، وأشار إلى أنه تحدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذا الشأن.

وزير الخارجية الليبي محمد الطاهر سيالة، ردَّ على الرئيس الفرنسي بجملة لها مغزى: “ليت هذا كان قبل 14 شهراً”.

فالزمن هنا يفرق، فقبل 14 شهراً كانت طرابلس تواجه وحدها معركة البقاء، أمام زحف ميليشيات حفتر، الذي استبق مؤتمراً أممياً للسلام، في حين تكتلت عدة دول، بينها فرنسا، خلف حفتر للإطاحة بالحكومة المعترف بها دولياً.

وإنكار ماكرون أن بلاده لم تدعم حفتر ولم تؤيد هجومه على طرابلس أمر قد يدعو إلى الاستغراب، فقبل عام واحد فقط اعترفت باريس أن صواريخ جافلين الأمريكية التي عثرت عليها قوات حكومة الوفاق قبل تحرير مدينة غريان (100 كلم جنوب طرابلس) تعود ملكيتها للجيش الفرنسي.

بل زعمت باريس أن تواجد عناصرها في غريان، مركز قيادة عمليات حفتر الرئيسي في عدوانه على طرابلس، كان بهدف “مكافحة الإرهاب!”، دون إعلام الحكومة الشرعية أو بالتنسيق معها.

لكن التنسيق جرى مع حفتر الذي كان يسعى للإطاحة بالحكومة المعترف بها دولياً، في حرب دموية ارتكبت فيها الكثير من جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية الموثقة، والتي قد تجعل باريس متورطة جنائياً في هذه الجرائم بشكل من الأشكال.

فدور باريس في حرب ليبيا لا يحتاج كثيرَ جهدٍ لإثباته، فيكفي اعترفات الرئيس الفرنسي السابق فرانسو أولاند، بمقتل جنود فرنسيين في ليبيا في 2016، خلال أداء مهام عسكرية، وقبله توقيف جنود فرنسيين في تونس تبين بعد التحقيق معهم أنهم فروا من ليبيا، حيث كانوا يوفرون الدعم المعلوماتي والتخطيط لميليشيات حفتر.

تأخَّرت باريس 14 شهراً لإدانة هجوم حفتر على طرابلس، و12 شهراً بعد انكشاف أسلحتها في غريان، ولم تدن تورط شركة فاغنر الروسية في العدوان على طرابلس طيلة 9 أشهر، فما الذي تغير حتى تتبرأ من حفتر الآن، وتدين فاغنر بهذه الحدة؟

السبب الرئيسي المعروف أن حفتر هُزم هزيمة ساحقة في حربه على طرابلس، وتراجع شرقاً وجنوباً عن دائرةٍ قطرها يتجاوز 400 كلم، ولذلك تخلت عنه فرنسا مثلما فعل السودان واليونان، وقبلهما إيطاليا.

لكن السبب الحقيقي وراء هجوم ماكرون على فاغنر وإثارة الأمر مع بوتين، هو تحرك مرتزقة فاغنر نحو حقل الشرارة النفطي، في أقصى الجنوب الغربي الليبي، بالقرب من مدينة أوباري (نحو ألف كلم جنوب غرب طرابلس)، وسيطرتها عليه الأسبوع الماضي، بعدما كادت وحدات موالية للحكومة الليبية أن تستعيده.

ويعد هذا الحقل أكبر حقل نفطي في ليبيا، وقد يصل إنتاجه إلى 300 ألف وحتى 400 ألف برميل يومياً في حالات الذروة، واحتياطاته تبلغ 3 مليارات برميل.

لكن أهم تفصيلة في هذه النقطة، أن شركة توتال النفطية الفرنسية لها أسهم ضمن مشروع حقل الشرارة، الذي تديره المؤسسة الوطنية للنفط الليبية، بالشراكة أيضاً مع شركات ريبسول الإسبانية، و”أو إم في” النمساوية، وإكوينور النرويجية.

فعندما تقترب شركة أمنية روسية من حقل الشرارة، الذي يستثمر فيه عملاق النفط والغاز الفرنسي أموالاً كبيرة منذ سنوات، فهنا نكون دخلنا “مجال النفوذ الفرنسي” في ليبيا، وهذا سبب غضبة ماكرون من فاغنر.

لذلك اتصل ماكرون ببوتين هاتفياً، الجمعة، للتعبير عن إدانته لنشاط فاغنر في ليبيا، بينما أبلغه بوتين، أن “المتعاقدين الخاصين” (مرتزقة فاغنر) لا يمثلون روسيا.

وعلّق ماكرون على تبرؤ بوتين من فاغنر بأنه “يلعب على هذا التناقض”.

لكن ليس بوتين وحده مَن يلعب على التناقض، بل ماكرون يتخبط أيضاً في تناقض مريع بليبيا، فكيف يدعم بلدٌ ديمقراطي جنرالاً يريد الانقلاب على السلطة بالقوة العسكرية، وإقامة نظام ديكتاتوري يتوارثه أبناؤه!

كما أن نشاط فاغنر في ليبيا، منذ سبتمبر/أيلول 2019، لم يُثر قلق باريس إلا بعدما وصل مرتزقتها إلى مناطق نفوذها في جنوب غرب البلاد.

منذ احتلال فرنسا لإقليم فزان الليبي (جنوب غرب) في 1943، عقب هزيمة إيطاليا ودول المحور في معركة العلمين، خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، ظلت تعتبره منطقة نفوذ خالصة لها، حتى بعد استقلال ليبيا في 1951.

فليبيا تقع شمال ما كان يسمى بالسودان الفرنسي (المستعمرات الفرنسية غرب إفريقيا)، وفزان يمثل الامتداد الطبيعي لهذه المنطقة، ومدخلها الشمالي الشرقي نحو أوروبا.

وتكفي الإشارة إلى أن أول دولة تأثرت أمنياً بعد سقوط نظام معمر القذافي، في 2011، هي مالي (مركز السودان الفرنسي)، حيث سقطت كامل منطقتها الشمالية في يد التنظيمات الانفصالية والإرهابية في 2012.

وحتى بعد تدخل فرنسا بمالي في 2013، إلا أن فزان اتخذته التنظيمات الإرهابية العابرة للصحراء الإفريقية الكبرى قاعدة خلفية لنشاطاتها، ومنطقة للتزود بالأسلحة والوقود والعلاج، ونقطة انطلاق للهجوم على دول الجوار، وبالأخص النيجر وتشاد ومالي وبوركينافاسو، بل حتى ما وراء نهر النيجر.

وتم في منطقة الساحل الإفريقي استهداف مصالح فرنسا واختطاف رعاياها، على غرار اختطاف 5 موظفين فرنسيين في شمال النيجر في 2010، يعمل بعضهم لدى مجموعة أريفا النووية الفرنسية التي تتولى استخراج اليورانيوم من شمال النيجر، غير بعيد عن الحدود الليبية.

لذلك تولي باريس أهميةً خاصةً لإقليم فزان، مقارنة بإقليمي طرابلس وبرقة، سواء اقتصادياً أو أمنياً.

ودخول فاغنر إلى حقل الشرارة النفطي يعني أيضاً أن لاعباً أمنياً جديداً غير مرغوب فيه دخل ساحة الصراع بالساحل الإفريقي، الذي احتكرته فرنسا طوال عقود.

وهذا ما يفسر تبرؤ ماكرون من دعم حفتر، الذي أصبح يهدد المصالح الفرنسية في فزان، والذي تزامن مع إعلان قبائل موالية للجنرال الانقلابي إعادة فتحها للحقول والموانئ النفطية، بعد نحو ستة أشهر من إغلاقها.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى