تقارير وملفات إضافية

“مباراة شطرنج متعددة الأطراف”.. كيف تحولت الحرب الليبية إلى أخطر ساحة للتنافس بين القوى الدولية؟

إذا كانت أفغانستان يُضرَب بها المثل بأنها “مقبرة الإمبراطوريات”، فإنَّ ليبيا تتحول إلى بوتقة القوى الإقليمية المستقبلية، إذ إنَّ الحرب الأهلية المستعصية التي قسَّمت الدولة الغنية بالنفط الواقعة في شمال إفريقيا هي في الحقيقة مباراة شطرنج متعددة الأطراف بين مختلف الفاعلين الأجانب، من تركيا التي تدعم الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس، إلى الإمارات وفرنسا ومصر وروسيا، التي تدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر. في أرض المعركة ستجد آلافاً من رجال الميليشيات والمرتزقة السودانيين والمتعاقدين الروس. أما في المجال الجوي، فتنشر الدول أعداداً متزايدة من الطائرات بدون طيار، والصواريخ والمقاتلات. وفي وقت مبكر من الشهر الجاري حذَّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أنَّ “التدخل الأجنبي” في ليبيا “وصل لمستويات غير مسبوقة”. 

تقول صحيفة The Washington Post الأمريكية، يبدو أنَّ الفوز الأكبر هذا الصيف كان من نصيب تركيا، التي هبَّت لإنقاذ الحكومة الشرعية ونجحت في عكس نتائج أشهر من الحملة العسكرية التي شنَّتها قوات حفتر ومرتزقته متعددي الجنسيات. والآن تسيطر قوات حكومة الوفاق الوطني المدعومة من تركيا بقوة على غرب ليبيا، وتأمل في انتزاع السيطرة على الهلال النفطي الاستراتيجي في الدولة، وهي مجموعة مدن ساحلية ومنشآت نفطية تقع بين العاصمة طرابلس ومدينة بنغازي الشرقية.   

وإذا نجحت في ذلك فستكون حكومة الوفاق الوطني قد أمَّنت لنفسها موقفاً قوياً راسخاً، وستتمكن أنقرة من جني جزء من ثمار هذا الفوز الجيوإستراتيجي. وفي هذا السياق، يقول أوزليم كايغوسوس، الأستاذ المشارك في العلاقات الدولية بجامعة أنقرة، لصحيفة The Financial Times الأمريكية: “أردوغان وبعض من حلفائه يعتقدون أنَّ تركيا تستعيد أهميتها في عيون حلفاء الغرب، وأنه كلما اضطلعت تركيا بدور حازم زادت قوتها واستحال تجاهلها في سياق تحقيق مصالح الغرب في المنطقة”.      

بيد أنه لا يزال هناك الكثير على المحك، ففي يوم الإثنين، 20 يوليو/تموز، صدَّق البرلمان المصري سريعاً على قرار يسمح بإرسال عناصر مسلحة إلى خارج حدود مصر، في خطوة قد تؤدي إلى دخول الجنود المصريين إلى شرقي ليبيا لدعم قوات حفتر. ويحظى أمير الحرب الليبي بدعم الإمارات وروسيا، وبدرجة أقل فرنسا، وبينما تشعر بعض هذه الحكومات بالإحباط من سعي حفتر الدموي إلى تحقيق نصر عسكري، يبدو الرئيس الديكتاتوري المصري عبدالفتاح السيسي حريصاً على دخول المعركة ضد حلفاء تركيا. 

وينطوي هذا على عنصر صدام شخصي وأيديولوجي، إذ ينتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيرَه المصري منذ وصول الأخير إلى السلطة في انقلاب عام 2013، أطاح بحكومة مصر المنتخبة ديمقراطياً، بعد فترة وجيزة من الحكم. ويقول سونر كاجابتاي، وهو باحث تركي في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى لـThe Washington Post: “هما ندّان: جنرال علماني حبس إسلاميين سياسيين، وسياسي بخلفية إسلامية حبس جنرالات علمانيين انقلابيين”.

وفي إطار التدخل التركي في ليبيا، أمَّنت أنقرة اتفاقية كبرى مع طرابلس تتعلق بالحقوق البحرية والسماح لها بالتنقيب عن الغاز والنفط. وأثار هذا الاتفاق حفيظة بروكسل، في ضوء سعي مسوؤلي الاتحاد الأوروبي لحفظ مصالح قبرص الرومية واليونان في منطقة شرق البحر المتوسط، لكن الخبراء الاستراتيجيين الأتراك يرون محوراً منافساً مثيراً للقلق، يضم العدو القديم اليونان ومصر وإسرائيل، يعمل في تناغم ضد مصالح تركيا في المنطقة.

بالنسبة لموقف بوتين، هناك صلة بين الكرملين ومجموعة فاغنر الأمنية الخاصة، التي تنشر مئات المرتزقة الروس في ليبيا لدعم حفتر. وترتبط موسكو بعلاقة تاريخية مع ليبيا منذ الحرب الباردة، وجعلت نفسها بطريقة انتهازية محاوراً رئيسياً في المناقشات حول المستقبل السياسي للبلاد.

من جانبه، قال الأدميرال هايدي بيرغ، ضابط المخابرات الأعلى في القيادة الأمريكية في إفريقيا، في إحدى المقابلات: “كانت للقوات بالوكالة… في السابق مقعد على طاولة المفاوضات، وكان لها تأثير غير مُستحَق على نتائجها، لكنها أصبحت الآن تقريباً أطراف الحوار الرئيسية. وهذا يسلط الضوء على ما تريده روسيا: المكانة الدولية والقدرة على تكبيد المجتمع الدولي تكلفة، وتكون الطرف الأهم على طاولة المفاوضات”.

وخلال عطلة نهاية الأسبوع، حثَّت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، في بيان مشترك “جميع الجهات الأجنبية على وقف تدخلها واحترام حظر الأسلحة الذي فرضه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”. لكن هذه الدعوات تبدو جوفاء عندما تُقابَل بمشاركة فرنسا نفسها في النزاع الذي يشهد تناطح الرؤوس بينها ودولة عضو أخرى في حلف شمال الأطلسي (الناتو). ويتهم النقاد حكومة ماكرون بإرضاء الانقلابي حفتر ضمن تنافسها على النفوذ في ليبيا.

وكتب بوبي غوش، صحفي في موقع Bloomberg الأمريكي الشهر الماضي: “لا يتطلب الأمر تهكماً ماكرونياً (نسبة إلى الرئيس الفرنسي) لإدراك أنَّ لهجته التهديدية تجاه تركيا هي محاولة يائسة لنفي الذنب عن فرنسا. ولدى ماكرون معارك أخرى مع أنقرة، بما في ذلك التنافس على حقوق الطاقة في شرق المتوسط. وقد يكون الافتراض الأقل في سوء النية هو أنَّ ماكرون لا يزال متمسكاً بأحلام النفوذ الفرنسي في جنوب البحر المتوسط​​”.

من جانبه، قال مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأمريكية، تحدث إلى مراسلين في The Washington Post بشرط عدم الكشف عن هويته: “أولاً وقبل كل شيء، هذه مشكلة أوروبية”. ثم أضاف المسؤول بعبارات صريحة أنَّ ما يحدث الآن “معقد للغاية، وهو إضفاء للطابع السوري على ليبيا”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى