ثقافة وادب

نيرون لم يُحرق روما ولم يعزف على أطلالها.. هكذا ظلم التاريخ “الإمبراطور المجنون”

إذا طُلب منا التفكير في شخص واحد يجسّد الانحطاط والدمار والفجور في روما القديمة، فمن المؤكد أن ينطق الكثير من الناس باسم الإمبراطور نيرون الذي حرق روما بل وعزف الموسيقى على أطلالها، أو هكذا عرفنا عنه لقرون.. لكن يبدو أن الإمبراطور لم يكن بهذا السوء بل ظلمته أساطير امتدت لقرون. 

وصل نيرون إلى الحكم في عام 54 ميلادياً وهو شاب غضّ عمره 16 عاماً فقط، وظل في سدة الحكم لمدة 14 عاماً تالية، ويُزعم أنه قتل زوجتيه وأمه وعمته وتزوج أيضاً رجلين مختلفين، وضاجع أمه وإحدى عذارى فستال، أو هكذا تقول الأساطير المتناقلة عنه.

وكأن كل هذه الحوادث الجنسية الطائشة لم تكن كافية لشغل الإمبراطور الشاب، إذ من المفترض أنه أيضاً أشعل النار في روما، وكان يلعب أو يعزف الموسيقى بينما كانت تُحرق المدينة، ثم ألقى باللوم على المسيحيين لكي يبعد الانتباه عنه. 

خُلِّدت صورة نيرون المتقلبة والمجنونة في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية مثل فيلم Quo Vadis ومسلسل I, Claudius. ناهيك عن برنامج نيرو المستخدم في حرق الأسطوانات ROM.

لكن هل أيٌّ من هذه القصص التي تشكل الوعي الشعبي الجمعي عن الإمبراطور نيرون هي قصص حقيقية؟ أكد موقع The Conversation الأسترالي أن اثنين من أكثر المفاهيم الخاطئة المنتشرة بشأن فترة حكم نيرون وهما أنه المسؤول عن حريق روما، وأنه أقام علاقة جنسية مع أمه أغريبينا الصغرى مشكوك في صحتهما.

لحقت بنيرون سُمعة أنه مشعل حرائق حتى في العصور القديمة، وظهرت الشائعات بأنه أشعل النيران في روما عام 64 ميلادياً، في سرد المؤرخ كاسيوس ديو والمؤرخ تاسيتس وأيضاً في السيرة الذاتية لنيرون التي كتبها المؤرخ سويتونيوس. 

وهناك سببان يُذكران عادة بأنهما الدافع لدى نيرون لإشعال روما. السبب الأول هو أنه مجرد معتوه  مصاب بجنون العظمة أشعل المدينة لأنه بكل بساطة يستطيع فعل ذلك. وهناك قصة رواها سويتونيوس بأنه عندما قال رجل لنيرون: “عندما أموت، دع النار تأكل الأرض”، فرد الإمبراطور: “لا، وأنا حي!”.

ويستعرض السبب الثاني أن نيرون أراد إعادة بناء روما وفقاً لمخطاطاته الشخصية، التي تضمن سكناً جديداً مترفاً لنفسه، وهو البيت الذهبي (Domus Aurea). وهناك أسطورة جديدة تقول إنّ المكان الجديد بُني فقط للحفلات والعربدة.

وإذا تفحصنا الشهادات التاريخية التي لدينا بدقة، فإن الدليل الوحيد على أن نيرون مشعل حرائق ليس سوى شائعات ومقولات. وهذا ما أقره بوضوح المؤرخ تاسيتس: “على الرغم من أن نيرون كان خارج روما عندما بدأ الحريق، انتشرت شائعة بأن الإمبراطور كان يعزف الموسيقى ويغني عن دمار طروادة من منصة قصره”.

ويصف كاسيوس ديو الفوضى في الشوارع أثناء الحريق الذي امتد 6 أيام و7 ليالٍ، فيقول إن الناس كانوا يركضون في الشوارع ويسألون بعضهم البعض كيف بدأ الحريق. في مثل هذه المواقف البائسة، دون أي مصادر موثوقة للمعلومات، من السهل بدء الشائعات.

وأيضاً أمر آخر بخصوص عزف الموسيقى على أطلال المدينة المحترقة، تقول المصادر التاريخية إن نيرون كان يعزف الموسيقى على آلة القيثارة (Cithara)، لكن يعتقد أن هذه الآلة اخترعت بعد حريق روما، وقالت مصادر أخرى إن نيرون كان خارج المدينة أساساً إبان الحريق، وفق موقع History التاريخي.

لم يكتسب نيرون فقط سمعة مغلوطة بأنه مشعل حرائق، لكنه أيضاً منحرف مرتكب لسفاح المحارم. تسببت هذه المزاعم بالسلوك الجنسي بينه هو وأمه أغريبينا في حجز مكان له في قائمة “أكثر الأفعال الجنسية المنحرفة التي قام بها الرومان“، ومكان في الأخبار عن “قصر المتعة” الخاص به. ولكن مثلما كان الحال مع قصة حريق روما، جاءت هذه الصورة عن نيرون من شائعات قديمة فقط، وليست مستندة إلى أي حقائق.

أحب الشعب الروماني التكهن والثرثرة عن الأباطرة وحياتهم الجنسية. إذ تقول إحدى القصص إنّ نيرون وأمه حُملوا في هودج يجوب روما، ثم ظهر الإمبراطور ببعض البقع المريبة على ثيابه. بدأ الناس يهمسون بأن الاثنين كانوا يفعلون ما هو أكثر من مراجعة التشريعات الإمبراطورية خلف ستائر الهودج.

والأمر الفاضح أكثر كان حقيقة أن الإمبراطور اتخذ لنفسه عشيقة اتضح بعد ذلك أنها صورة طبق الأصل من أمه، وهذا ما جعل الألسنة جميعها تدور بالحديث في جميع أنحاء روما.

ويمكن تفسير هذه الشائعات بأنها استجابة للموقف السياسي غير المعتاد. إذ كان نيرون عمره 16 عاماً عندما أُعلن إمبراطوراً، ورسخت أغريبينا منصبها باعتبارها وصيةً على الإمبراطور عن طريق تعيين رجال موالين لها في مناصب كبرى. وظهر هذا النفوذ غير المعتاد على العملات في ذلك العصر التي يظهر عليها نحت نصفي لكل من الإمبراطور وأمه على وجه “الملك”. وجعلت هذه العملة أغريبينا تظهر وكأنها على قدم المساواة مع نيرون.

وكانت مكانة أغريبينا غير المسبوقة هي الموضوع المستمر للتكهن والثرثرة في جميع أنحاء روما، وفقاً لما قاله المؤرخ كاسيوس ديو، لأن الناس لم يتمكنوا من الحصول على معلومات دقيقة عن شؤون القصر الداخلية. وبدون المعلومات الموثوقة، تنتشر الشائعات بناءً على المفاهيم الثقافية المسبقة، وفي العالم الروماني، كان يُعتقد أنه لا يمكن لامرأة ممارسة نفوذ سياسي دون الوصول إليه بطرق ملتوية أو غير أخلاقية.

وانتشرت إحدى الشائعات بشدة بعد أن بدأت أغريبينا تفقد سيطرتها على نيرون، لأنه أولى اهتماماً أكثر لإحدى النساء في حاشيته وهي بوبايا سابينا. ويُزعم أن أغريبينا تأنقت، وتزيّنت، وأغرت ابنها وهو مخمور بعد جلسة احتساء خمر مطولة.

ويقول كاسيوس ديو: “لست متأكداً إذا كان هذا حدث بالفعل، أم أنه مؤلف ليلائم الشخصيات”. وحقيقة أن المؤرخين القدامى لا يصدقون مثل هذه الحكايات يجب أن نقف عندها قليلاً.

أظهرت الدراسات الاجتماعية للشائعات أنها تتطور عندما لا يكون لدى الناس معلومات كافية لتفسير الأحداث الجارية. ويمكن تفسير شائعة أن نيرون هو من أحرق روما بأنها محاولة من الشعب لتفسير موقف مربك وصادم في وقت لم يكن متاحاً فيه سوى القليل من المعلومات الرسمية عما حدث بالفعل، إن لم تكن معدومة.

كما أنّ رؤية بناء البيت الذهبي بعد وقت قصير من الحريق أذكت حرائق الشائعات بلا شك، ووجهت أصابع الاتهام نحو الإمبراطور نفسه. ويمكننا الاستدلال بالمسألة ذاتها في العلاقة المحرمة مع أمه. إذ تطورت القصص بشأن العلاقة الجنسية باعتبارها طريقة لتفسير شدة نفوذ أغريبينا غير المعتاد، وكذلك سقوطها من بين المقربين.

وكانت المصادر التاريخية واضحة بشأن حقيقة أنهم ينقلون شائعات وتلميحات. إذ يفيد سويتونيوس كاتب السيرة الذاتية لنيرون بأن الإمبراطور كان يُعتقد فقط أنه يشتهي أمه، لكنه اقتنع بألا يتصرف وفقاً لأهوائه. وبالمثل قال تاسيتوس إنه بينما صدق البعض إشاعة أن نيرون هو من أشعل النيران، هناك أيضاً من لم يصدقوها.

وإذا كان المؤلفون القدامى يعرفون أن هذه القصص ما هي إلا شائعات، فلماذا يسجلونها؟ هناك العديد من الأسباب لهذا الأمر. كان هناك بالتأكيد عادة قديمة في كتابة التاريخ تنص على نقل النسخ المختلفة من الأحداث والسماح للقارئ بتكوين النسخة الخاصة به. كما أن القصص مسلية للغاية، ولا يجب أن ننسى أبداً أن التاريخ والسير الذاتية كان المقصد منها إمتاع القراء.

وأخيراً، كانت الشائعات القذرة تخدم هدفاً سياسياً. فالحياة الجنسية للإمبراطور لم تكن مجرد موضوع غني للنميمة بين الجموع، فالزلات الخاصة به كان يُعتقد أنها تعكس شخصية حكومته. والشائعات، حتى وإن كانت خاطئة، ساعدت في تحديد التوقعات الإيجابية المنتظرة منه في عقول شعبه.

وهناك اختلافات طفيفة في أسباب تناقل هذه الشائعات باعتبارها حقائق في العالم الحديث. إذ إنّ قراءتها مسلية وممتعة، ومناسبة لتصوراتنا عن الأباطرة القدماء باعتبارهم فاسدين وبلا أخلاق.

لكن ربما الأهم هو أنها تمكننا من وضع مسافة أخلاقية بيننا نحن وأسلافنا القدامى. فتشويه الماضي ليصبح غريباً وغير مألوف يساعدنا على نسيان أنّ المشاكل ذاتها ما تزال موجودة في حاضرنا.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى