تقارير وملفات إضافية

هل يدفع تجنب الجامعة العربية إدانة التطبيع الإماراتي إلى بحث السلطة الفلسطينية عن حليف جديد؟

 عندما أبرمت مصر معاهدة السلام مع إسرائيل لاستعادة أراضيها المحتلة طُردت من الجامعة العربية عام 1979، وهي أكبر دولة عربية، ومؤسِّسة الجامعة فكرة ومبنى وبلد المقر، ولكن عندما أبرمت الإمارات اتفاق التطبيع لم يصدر من الجامعة العربية بيان، ولم تعقد اجتماعاً حتى عبر الإنترنت لمناقشة الأمر.

تُلخص المسافة بين موقفي الجامعة العربية ليس فقط انحدار حالها وحال العرب، ولكن توضح حجم التهديد الذي يواجه الجامعة قبل القضية الفلسطينية التي خذلتها.

إذ أصبحت الجامعة العربية مهددةً بفقدانها مصدر شرعيتها الأكبر، حيث كانت على قلة حيلتها حاملة لواء القضية الفلسطينية، حتى إنها طردت مصر، قلب العروبة، من أجل القضية الفلسطينية، ولكن اليوم لم تستطع أن تنبس ببنت شفة في مواجهة دولة تأسست بعد الجامعة العربية بعقود.

وفور إعلان التطبيع الإماراتي دعت فلسطين على لسان سلطتها لعقد اجتماع للجامعة العربية لبحث القرار الإماراتي، ولكن الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبوالغيط، قال إن الجامعة ستعقد اجتماعاً عادياً في التاسع من شهر سبتمبر/أيلول على المستوى الوزاري، ما يعني أنه لن يكون هناك اجتماع طارئ بناء على طلب القيادة الفلسطينية لبحث الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، علماً أن التطبيع أُعلن قبل أكثر من أسبوعين من الاجتماع.

وعادة يمثل عقد اجتماعات طارئة -على عدم جدواها- لفتةً رمزيةً من وزراء الخارجية العرب، للإعراب عن التضامن بلا ثمن مع فلسطين، أو أي قضية عربية أخرى.

ولكن حتى هذه اللفتة التي لا تكلف شيئاً لم تبادر بها الجامعة أو أي دولة عربية (لم يعلن عن تأييد أي دولة عربية لطلب الجامعة)، بسبب الخوف من دولة الإمارات، التي تصف بعض الصحف الغربية رجلها القوي الشيخ محمد بن زايد بأنه واحد من أقوى الرجال في العالم (حيث أصبحت تمتلك شبكة من الاستخبارات والإعلام والمرتزقة والتحالفات والتمويل، التي يُحسب لها ألف حساب).

في عام 1948، خلال حرب النكبة، كانت أغلب الدول العربية مستعمرة، وحتى الدول المستقلة اسماً كان البريطانيون يسيطرون فعلياً على أراضيها، ولكن هذا لم يمنع الجامعة العربية من أن تصدر قراراً بتشكيل كتائب المقاومة الشعبية، التي كان يقودها القائد الشهيد البطل أحمد عبدالعزيز، قوامه ضباط عرب أخذوا إجازات من جيوشهم.

حتى خلال أزمة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، تجرأ الأمين العام في ذلك الوقت، عمرو موسى، أن يختلف مع دول الخليج، ورفض أن يطرح مبادرة الشيخ زايد، رئيس دولة الإمارات، التي تقترح تنحي الرئيس العراقي صدام حسين، كما استقبل وزير الخارجية العراقي ناجي الجويني في مقر الجامعة العربية بالقاهرة، مخاطراً بإغضاب دول الخليج والأمريكيين.

اليوم خرج عمرو موسى، أحد أشهر الأمناء العامين السابقين للجامعة، الذي لا يتولى أي منصب حالياً بتصريح مركب، علق فيه على التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، لم يوجه فيه انتقاداً صريحاً، ولكنه تصريح يبدو كشهادة إبراء ذمة من رجل قادم من عصر قديم، مصدوم مما يحدث في بلاد العرب في العصر الحالي، قائلاً: “إنه عالم مختلف، يسقط مسلمات، ويبني أسساً جديدة للعلاقات الدولية، لا ترتبط كثيراً بمبادئ القانون الدولي أو أهداف ميثاق الأمم المتحدة أو قراراتها”.

وبدا الرجل يحاول نقد الإمارات (التي يعلم أن قادتها لا يطيقون النقد)، بالمزج بين المدح والنقد، فاعتبر أن وقف الضم هو موقف أمريكي معروف، سبق تبادل التطبيع والاعتراف المذكور بأسابيع، موضحاً أنه موقف هش، ولكنه “مهم أيضاً الإشارة إلى أن سفارة الإمارات مقرها تل أبيب وليس القدس، وهذا موقف مهم”.

أما الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط فلم يتحدث بكلمة صريحة عن مبادرة الإمارات، ولكنه قال في بيان نُشر على الصفحة الرسمية لجامعة الدول العربية، “إن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال محل إجماعٍ عربي، وإن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية هو الغاية الأكيدة التي تصبو إليها وتسعى لأجلها كافة الدول العربية دون استثناء”.

وأضاف “أنه استخلص من جملة اتصالات عربية أجراها خلال الأيام الماضية، أن خطة السلام التي تضمنتها مبادرة السلام العربية المعتمدة في 2002، وتقوم على مفاهيم متفق عليها عربياً، لا تزال هي الخطة الأساس التي تستند إليها الرؤية العربية والفلسطينية لتحقيق السلام العربي الإسرائيلي”.

الرجل يحاول طمأنتنا أنه لن يكون هناك حالياً مزيد من اتفاقات التطبيع.

الأمانة العامة كانت دوماً انعاكساً لإرادات مجمل أنظمتها العربية.

اليوم الأنظمة العربية أما تقف منتظرة في ركب التطبيع الذي يقوده الثلاثي العربي مصر والسعودية والإمارات، الذين يعتبرون إسرائيل وترامب حليفيهم الرئيسيين، أو تخشى من بطش هذا الثلاثي، فلا تريد توريط نفسها في أي مشاكل معهم، وهو ما يظهر بشكل واضح في مواقف دول المغرب العربي، التي كانت مواقفها في القضية الفلسطينية مبدئية ومحررة نسبياً من حساباتها الخاصة.

ولذا لا يتوقع أن تحاصر السلطة الفلسطينية الإمارات في اجتماع وزراء الخارجية العرب، بل يجد ممثل السلطة في الأغلب نفسه محاصراً بين دعم أصدقاء أبوظبي مثل البحرين والسعودية، أو صمت الآخرين الذين لا يريدون استفزاز الإمارات أو الإدارة الأمريكية، مثل سلطنة عمان ودول المغرب العربي والعراق.

في اجتماع وزراء الخارجية العرب غداً سيرصد الفلسطينيون تغييراً غير مسبوق.

 يوماً ما كان مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح ينظر إليهم كإرهابيين في كثير من دول العالم، ولكنهم كانوا أبطالاً في الجامعة العربية، التي يوجد بها قطاع مستقل لفلسطين والأراضي العربية المحتلة، أما اليوم فإن نفوذ الإمارات وأصدقائها سيجعل الفلسطينيين هم المحاصرين، بعدما تدهور الحال بالدول العربية التي كانت أكثر تأييداً للقضية الفلسطينية، مثل سوريا والعراق وليبيا، وانقلب دور مصر رأساً على عقب، ولم يبق فعلياً سوى دول المغرب العربي وقطر، وهي التي تعاني أصلاً من عدوانية الثلاثي بن سلمان وبن زايد والسيسي.

وقد بدأ الحصار العربي على الفلسطينيين تظهر آثاره في المجال الوحيد الذي مازال العرب  يدعمون به الفلسطينيين، وهو المال.

فقد قال صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، باجتماع مجلس جامعة الدول العربية، إن معظم الدول العربية “أوقفت تسديد التزاماتها بدعم الموازنة الفلسطينية، كما هي مقررة في القمم العربية المتعاقبة، ناهيكم عن تنصلها من الوفاء بتعهد شبكة الأمان، وفقاً لقرارات تلك القمم”.

ودعا عريقات اجتماع مجلس جامعة الدول العربية إلى سد الثغرة التي أحدثها اتفاق التطبيع الإماراتي- الإسرائيلي، وضمان التزام الدول العربية بقرارات الجامعة، والوفاء بالتزاماتها المالية تجاه فلسطين.

وأعرب عريقات عن أمله في “تجديد الالتزام بمبادرة السلام العربية، وبقرارات القمم العربية، وآخرها قمّتا الظهران (2018)، وتونس (2019)”.

يريد عريقات على ما يبدو الحصول على وعد جماعي عربي، بأن يكون الاتفاق الإماراتي آخر الاتفاقات، ولكن هل يكون كذلك؟

لم يعد الخوف من الرأي العام أو من الانتقادات الفلسطينية عائقاً أمام تحركات الرباعي العربي: مصر، البحرين، السعودية، الإمارات.

ولكن نفوذ هذا الرباعي، وضعف سياسات الدول الأخرى الأقرب حالياً للفلسطينيين، يعني أن دور الجامعة العربية كحاضنة تاريخية للفلسطينيين قد انتهى، أو تم تجميده على الأقل.

بل إن المحيط الرسمي العربي بات مصدر ضغط على السلطة الفلسطينية، حيث يصدر منه على سبيل المثال أكبر تدخل في الشأن الفلسطيني، عبر محاولة الإمارات، وأحياناً مصر، تنصيب القيادي المنشق عن فتح محمد دحلان بديلاً لمحمود عباس.

بالنسبة للفلسطينيين فإن منظمات مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الإسلامي، وحتى الأمم المتحدة، أكثر جدية في دعمها للشعب الفلسطيني، من الجامعة والدول العربية.

ففي معظم الأوساط الغربية، لاسيما الليبرالية واليسارية، تزداد شعبية القضية الفلسطينية، حتى الحزب الديمقراطي الأمريكي، وتتوسع حركة مقاطعة إسرائيل، بينما يتدهور حال القضية الفلسطينية في العالم العربي، ويتحرك قطار التطبيع قدماً للإمام.

والسبب أن القضية الفلسطينية مرتبطة بالحرية، فأينما وجدت الحرية والديمقراطية زاد التعاطف مع القضية الفلسطينية.

والمفارقة أن نخبة حركة فتح قد تحالفت منذ أمد مع الأنظمة العربية، واعتبرت الربيع العربي والإسلاميين في المنطقة أعداءَها، واليوم وصلت هذه الأنظمة في متاجرتها بالقضية الفلسطينية إلى مستوى لا يمكن للنخبة الفتحاوية على كل تنازلاتها أن تقبله.

لم تترك صفقة القرن، التي يروج لها كوشنر وأصدقاؤه العرب شيئاً للقادة الفلسطينيين ليقبلوه، كما أنها لم تترك لهم شيئاً ليخسروه.

وأصبح الطريق الوحيد المتاح للسلطة الفلسطينية، إضافة إلى تعزيز العلاقات مع الأوروبيين، هو التقارب مع تركيا وإيران، وهو أمر لا تحبذه النخبة الفلسطينية الحاكمة، ليس فقط خوفاً من الغضب الرسمي العربي والأمريكي، ولكن لأن هذه النخبة بتركيبتها وبيروقراطيتها أقرب للنخب العربية الحاكمة، وتكنّ كراهية أيديولوجية للإسلاميين، حتى لو كانوا مع القوميين، أبرز مؤيدي القضية الفلسطينية، ولكن الحلفاء السابقين لنخبة فتح لم يراعوا كل هذا، وباع هؤلاء الحلفاء القضية الفلسطينية بأبخس الأثمان.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى