تقارير وملفات إضافية

هل تواطأت السلطة مع إسرائيل على استمرار الاحتلال؟ كاتب أمريكي يرى أن كل الطرق ستؤدي لحل واحد للقضية الفلسطينية

على مدار ثلاثة عقودٍ تقريباً، هيمن حل الدولتين المزعوم على المداولات بشأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. لكنَّ فكرة حل الدولتين للشعبين على الأرض التي يتشاركونها كان وهماً منذ البداية، ويمثل حل الدولة الواحدة حتمية تاريخية وجغرافية وسياسية.

في السنوات الأخيرة، بدأ الأمر الواقع يأخذ مجراه وانهار حل الدولتين، حسبما ورد في مقال نُشر بمجلة Foreign Affairs الأمريكية للكاتب والسياسي الفلسطيني الأمريكي يوسف منير، الذي يعمل مديراً تنفيذياً للحملة الأمريكية لحقوق الفلسطينيين.

ويقول إن من حسن الحظ أنه انهار، حسب تعبيره، إذ لم يسبق أن تم تقديم طريق واقعي للمضي قُدُماً.

وحان الوقت لتبدأ جميع الأطراف المعنيّة التفكير في البديل الوحيد الذي يُوفِّر فرصةً لإقامة السلام الدائم: حقوقٌ مُتساوية للفلسطينيين والإسرائيليين داخل دولةٍ واحدةٍ مُشتركة، حسب قول الكاتب الفلسطيني الأمريكي.

وكان من المُمكن أن نتوقَّع الوصول إلى هذه اللحظة منذ فترة.

إذ قال جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، إنَّ حل الدولتين أمامه فترةٌ تتراوح بين العام والعامين فقط قبل أن يصير غير قابلٍ للتطبيق، وذلك إبان مُحاولته إنقاذ ما صار يُعرف بـ «عملية السلام»، وكان ذلك قبل ست سنوات. 

ودعا القرار 2334، الذي مرَّره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بموافقة الولايات المتحدة أواخر عام 2016، إلى «إنقاذ حل الدولتين» عن طريق المُطالبة بعددٍ من الخطوات التي شملت: الإنهاء الفوري لبناء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي المُحتلة. وكان ذلك قبل ثلاث سنوات. ومنذ ذلك الحين، واصلت إسرائيل بناء وتوسيع المستوطنات.

ودقَّ وصول دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي، إلى البيت الأبيض المسمار الأخير في نعش حل الدولتين. إذ أوضح ترامب في فبراير/شباط عام 2017: «انظر إلى حل الدولتين، وحل الدولة الواحدة، وأميل إلى الحل الذي يُعجِب الطرفين». 

وأثار ذلك التصريح حفيظة خبراء السياسة والدبلوماسيين المُتمرِّسين، الذين شاهدوا نجم تلفزيون الواقع -الذي صار القائد الأعلى للولايات المتحدة- يصف خيارات السلام كأنَّها أطباقٌ على مائدة البوفيه. 

لكن ذلك التصريح كان دلالةً على تحوُّلٍ حقيقي: فمنذ أن بدأت المرحلة الحالية من عملية السلام أوائل التسعينيات، لم يسبق أن اقترح رئيس أمريكي علناً قُبول حل الدولة الواحدة.

واتضحت نية ترامب بجلاءٍ خلال السنوات التالية، إذ وافق هو وفريق على قائمة أُمنيات اليمين الإسرائيلي، التي تهدُف إلى الوصول لحل الدولة الواحدة، لكنه حلٌّ سيُعزِّز من الهيمنة الإسرائيلية على المواطنين الفلسطينيين، وليس حلاً يضمن للطرفين حقوقاً مُتساوية.

وتخلَّت إسرائيل في عهد بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، عن أيّ تظاهرٍ بالسعي لإنجاح حل الدولتين.

كما تراجع الدعم الشعبي للفكرة بشكلٍ مُطّرد في أوساط الإسرائيليين. 

في المقابل، يُواصل القادة الفلسطينيون السعي لإقامة دولتهم المُستقلة. ولكن بعد سنواتٍ من الفشل والإحباط؛ لم يعُد كثير من الفلسطينيين يرون أملاً في تحقيق ذلك.

والحقيقة المُرّة هي أن الإسرائيليين طوَّروا قوةً كافيةً ودعماً كافياً من واشنطن على مدار عقود، وهو ما سمح لهم باحتلال والسيطرة على الأراضي لإقامة واقع الدولة الواحدة وفقاً لهواهم. 

ولا يسعى ترامب أو نتنياهو لتغيير الوضع الراهن، بل يُريدون التصديق عليه. 

والسؤال هنا لا يدور حول ما إذا كان حل الدولة الواحدة سيُمرَّر، بل يتعلَّق بنوعية تلك الدولة.

هل تكون دولةً تُرسِّخ قواعد الفصل العُنصري القائم، حيث يُحرم الفلسطينيون من حقوقهم الأساسية، أم هل ستكون دولةً تعترف بالفلسطينيين والإسرائيليين على قدم المُساواة أمام القانون؟ 

والخيار الثاني هو ما يجب أن يتبنَّاه الفلسطينيون، ويجب على الأمريكيين والإسرائيليين أن يتبنّوه أيضاً.

الوضع الحالي لن يستمر رغم أنه مريح للفلسطينيين

ولكن على الأمريكيين والإسرائيليين أولاً أن يُدركوا أنَّ الوضع الراهن سيُثبت صعوبة استدامته في نهاية المطاف، وأنَّ تقسيم الأرض لن ينجح، وأنَّ السبيل الأخلاقي الوحيد للمضي قُدُماً هو عن طريق الاعتراف بالإنسانية الكاملة للشعبين.

يعيش قرابة 13 مليون شخص بين نهر الأردن والبحر المتوسط، ويخضعون جميعاً لسيطرة الدولة الإسرائيلية. ونصفهم تقريباً من الفلسطينيين العرب، الذين يعيش ثلاثة ملايين منهم تقريباً تحت احتلالٍ عسكري بلا حقوقٍ في انتخاب الحكومة التي التي تحكمهم، ويعيش قرابة المليونين الآخرين داخل إسرائيل بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية، ويتعرَّضون للتمييز على أساس هويتهم، بسبب وضع إسرائيل بوصفها دولةً يهودية. 

ويعيش مليونا فلسطينيٍّ آخرين داخل قطاع غزة المُحاصر، حيث تُمارس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الحُكم المحلي، الذي يُشبه سجناً في الهواء الطلق ويعيش معزولاً عن العالم، بسبب الحصار الإسرائيلي.

وفي الوقت ذاته، يعيش عددٌ يتراوح بين 500 ألف و700 ألف يهودي إسرائيلي بين ملايين الفلسطينيين بالضفة الغربية.

وتأتي حماية المستوطنين وزيادة أعدادهم على رأس أولويات إسرائيل، منذ أن استولت على الأراضي من الدول العربية التي هزمتها في حرب الأيام الستة عام 1967. وفي عام 1993، دشَّن اتفاق أوسلو مرحلةً جديدة بتلك العلاقة، على أساس نظام المُقايضة: إذ تنسحب بموجبه إسرائيل من بعض الأراض المُحتلة وتتخلَّى عن بعض المستوطنات، في مقابل إنهاء المقاومة الفلسطينية وتطبيع العلاقات مع جيران إسرائيل العرب.

لكن مشروع بناء المستوطنات الضخم لم يتوافق بسهولةٍ مع هذا الهدف، وهو ما خلَّق حافزاً سياسياً قوياً لتجنُّب فكرة المضي قدماً تجاه السلام.

واليوم، تُؤيِّد أعدادٌ كبيرة من الإسرائيليين فكرة الاحتفاظ بالأراضي العربية المحتلة إلى الأبد

وقبل أسبوعٍ من الانتخابات الإسرائيلية في سبتمبر/أيلول الماضي، ألقى نتنياهو خطاباً تلفزيونياً أعلن خلاله نيته ضمَّ غور الأردن والمستوطنات الإسرائيلية كافة في الضفة الغربية إلى الأراضي الإسرائيلية، وهي خطوةٌ ستأكل 60% من مساحة الضفة الغربية، وتترك الـ40% المُتبقية على هيئة كانتونات معزولة وغير متصلة بعضها ببعض.

لكن المُثير للاهتمام في خطاب نتنياهو هو أنَّه لم يُثِر ضجةً كبيرة، إذ إنَّ فكرة ضم الأراضي ليست مُثيرة للجدل وسط اليهود الإسرائيليين. 

وأظهر استطلاع رأيٍ حديث أنَّ 48% منهم يُؤيدون خطوات تتوافق مع ما اقترحه نتنياهو، في حين لا يُعارضه سوى 28% فقط. لدرجة أنَّ «تحالف أزرق أبيض»، مُنافس نتنياهو الرئيسي، يُؤيِّد السيطرة الإسرائيلية الدائمة على غور الأردن. 

وكان رد فعل قادة التحالف على خطة ضم نتنياهو هو التذمُّر من أنَّ الفكرة كانت فكرتهم في المقام الأول.

ولا ينبغي أن يُفاجئ هذا الوضع أيَّ أحد، خاصةً صُنَّاع السياسة بواشنطن. بل في الواقع، أشار أحد تقديرات الاستخبارات الوطنية إلى أنَّه إذا استمرت إسرائيل في الاحتلال وبناء المستوطنات «لفترةٍ مُطوَّلة، تصل إلى سنتين أو ثلاث؛ فستجد صعوبةً متزايدة في التخلِّي عن تلك السيطرة. 

وستتزايد الضغوط من أجل الاحتفاظ بتلك الأراضي، وستصير إعادة الأراضي العربية التي تحوي مستوطنات أمراً أكثر صعوبة».

وُكتِبَ ذلك التقدير قبل أكثر من 50 عاماً، أي بعد أشهرٍ من بدء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية. ورغم ذلك مضت إسرائيل قُدُماً في خطط توسُّعها، وتمتَّعت بدعمٍ لا يتزعزع من الولايات المُتحدة، حتى حين حذَّر المسؤولون الإسرائيليون بشكلٍ دوري من أنَّ تلك الخُطط لا رجعة فيها.

السؤال هنا لا يدور حول ما إذا كان حل الدولة الواحدة سيُمرَّر، بل يتعلَّق بنوعية تلك الدولة.

واتَّخذ القادة الفلسطينيون قرارات تُقلِّل فُرص التقسيم العملي، ولكنها ليست أكثر أهمية من الموافقة على إطار عمل أوسلو في المقام الأول.

وبذلك، أقروا صيغةً تُشجِّع التوسع الإسرائيلي، وتتخلَّى عن قدرتهم على تحدِّيه، وتُقلِّص دور المُجتمع الدولي والقانون الدولي. 

وبموجب أوسلو، كان على الفلسطينيين أن يعتمدوا على تعامل الولايات المُتحدة مع إسرائيل بنوعٍ من الحب القاسي، وهو الأمر الذي فشِل الزعماء الأمريكيون في الحشد من أجله، بسبب قلقهم بشأن دعمهم المحلي في الانتخابات. 

وفي الأعوام الـ25 التي مضت منذ حرب 1967 وحتى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993؛ تزايدت أعداد المستوطنين الإسرائيليين -دون احتساب القاطنين في القدس المُحتلة- لتصل إلى 100 ألف مُستوطن. وفي الأعوام الـ26 التي أعقبتها، وصل الرقم إلى قرابة 400 ألف مُستوطن.

وبعد أن صار فشل عملية السلام أكثر وضوحاً بمرور الوقت، انتفض الفلسطينيون مُجدَّداً ضد الاحتلال، بعنفٍ أحياناً. 

واستغلت إسرائيل ردود الفعل تلك لتبرير مزيد من القمع. لكن السبب في تلك الدائرة المفرغة هُم القادة الفلسطينيون الذين أسلموا أنفسهم لمحاولة إثبات أنَّ الفلسطينيين يستحقون تقرير المصير بطريقةٍ تُرضي إسرائيل، ولكنهم لم يعوا أن هذا أمرٌ تستحقه الشعوب كافة في الواقع.

وتتحوَّل الجدالات حول الصرع عادةً إلى مباريات صراخٍ حول هوية من يتحمَّل قدراً أكبر من المسؤولية عن فشل حل الدولتين. 

لكن هذا النوع من الخلافات يُغفِل النقطة الرئيسية: أنَّ أيّ خطةٍ ترى في التقسيم وسيلةً لحلٍ عادل كانت محكومةً بالفشل دائماً.

إذ اعتمدت القناعة بإمكانية تحقيق حل الدولتين على افتراضٍ خاطئ وهو أنَّ جذور الصراع تعود إلى تداعيات حرب عام 1967. 

وربما كان تحقيق السلام من خلال التقسيم بناء على حدود ما قبل هذا الصراع مُمكناً، بحسب مُؤيِّدي الفكرة، في حال تمكَّن الطرفان من وقف دائرة الاحتلال والمقاومة العنيفة التي سيطرت على الأوضاع في أعقاب الحرب. 

لكن المُعضلات التي يفرضها التقسيم تعود إلى تاريخٍ يسبق عام 1967 بفترةٍ طويلة، وتنبع من مشكلةٍ جذريةٍ غير قابلةٍ في أساسها.

فطوال فترةٍ كبيرة من القرن الماضي، حاولت القوى الغربية مراراً وتكراراً -بدءاً بالمملكة المتحدة ثم الولايات المتحدة- الوصول إلى حلٍ وسطٍ مُستعصٍ: أي استيعاب المطالب الصهيونية بإقامة دولةٍ ذات أغلبيةٍ يهودية فوق أرضٍ يسكنها الفلسطينيون بأغلبيةٍ ساحقة. وصار المشروع غير المنطقي مُمكناً من خلال الاستعداد لتجاهل حقوق وإنسانية السكان الفلسطينيين، والتعاطف مع فكرة إقامة مساحةٍ لليهود في مكانٍ خارج أوروبا، وهو الشعور الذي كان مُتجذِّراً أحياناً في الأُمنية المُعادية للسامية بخفض أعداد اليهود وسط الغرب الذي يُهيمن عليه المسيحيون.

فأيّ خطةٍ ترى في التقسيم وسيلةً لحلٍّ عادل كانت محكومةً بالفشل دائماً.

وفي عام 1917، أصدرت الحكومة البريطانية «وعد بلفور»، الذي دار حول هدف إقامة «وطنٍ قومي» للشعب اليهودي في فلسطين، دون الانتقاص من «الحقوق الدينية والمدنية التي يتمتَّع بها السكان الحاليون من غير اليهود». واحتوت صياغة تلك الوثيقة على عيبٍ أساسي، سيُؤدِّي في نهاية المطاف إلى إفساد خُطط التقسيم المُستقبلية كافة: إذ تخيَّل اليهود في صورة شعبٍ يملك حقوقاً قومية، لكنه لم يمنح الوضعية نفسها للفلسطينيين. 

لذا صار من الممكن نقل الشعب الفلسطيني من مكانه وتفريقه، لأنَّه ليس شعباً يستحق أن يحظى بتماسكٍ ديموغرافي. 

وبعد 20 عاماً، اقترحت لجنة بيل البريطانية خطة تقسيمٍ تُبقي غالبية اليهود في فلسطين معاً، ولكنها تُقسِّم الشعب العربي على ثلاثة كياناتٍ سياسية مُتفرِّقة: كيانٌ عربي، وآخر يهودي، وثالث بريطاني. وبعد عقدٍ من ذلك، في أعقاب الهولوكوست، عرضت خطة تقسيمٍ خاصة بالأمم المتحدة رؤيةً مماثلة. ونصَّت تلك الخطة على رسم حدودٍ لإقامة دولةٍ ذات أغلبيةٍ يهودية، مع تقسيم الفلسطينيين أيضاً إلى عدة كيانات.

وفي عام 1948، انتهى الاحتلال البريطاني لفلسطين، فبدأت الميليشيات الصهيونية في إقامة دولةٍ يهوديةٍ على الأرض بالقوة، مُعتمدةً على خطة تقسيم الأمم المتحدة لتبرير أهدافها. 

وفي الحرب التي أعقبت ذلك، أُجبِرَ سُكَّان الأرض الفلسطينيون على الخروج من منازلهم أو الفرار في مواجهة التوغُّلات الإسرائيلية؛ ولم يُسمح لهم بالعودة قط. 

إذ صادرت الدولة الجديدة أراضيهم، وأحرقت قراهم، ومنحت منازلهم الحضرية للوافدين الجُدد من اليهود. وصار الفلسطينيون لاجئين، ودخلت حياتهم في طي النسيان. ويُشير الفلسطينيون إلى تلك اللحظة التاريخية باسم «النكبة».

وربما كانت الأعوام الـ19 التي أعقبت تلك الحرب هي الفترة الوحيدة التي قُسِّمَت خلالها أرض فلسطين على مدار الألفي عامٍ الماضية. إذ لم يسبق أن قسَّمت القوى العظمى التي حكمت تلك الأرض بين غزة والقدس، أو بين نابلس والناصرة، أو بين أريحا ويافا، سواء كانوا الرومان أو البيزنطيين أو الأمويين أو العباسيين أو الفاطميين أو الصليبيين أو الأيوبيين أو المماليك أو العثمانيين أو البريطانيين.

إذ إنَّ فعل ذلك لم يكُن منطقياً على الإطلاق، وما يزال غير منطقي. ولا شكَّ في أنَّه حين سيطرت إسرائيل على تلك الأراضي عام 1967؛ مثَّلت بذلك عودةً إلى القاعدة التاريخية لحُكم تلك الأرض بوصفها وحدةً واحدة. لكنَّها فعلت ذلك بنظامين، أحدهما لليهود الإسرائيليين، والآخر للناس الذين يعيشون على الأرض التي احتلها الإسرائيليون.

ما المشكلة التي يسعى حل الدولتين إلى حلها؟ صارت الإجابة جليةً في ظل المماطلة في تنفيذ اتفاق أوسلو: فهذا ليس صراعاً بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بقدر ما هو صراع بين الإسرائيليين أنفسهم. إذ تُفضِّل إسرائيل اعتبار نفسها دولةً ديمقراطية، حتى في ظل حُكمها لملايين الأشخاص المحرومين من الحقوق السياسية الأساسية. 

وزادت المفاوضات التي لا نهاية لها، من غموض هذه الحقيقة الأساسية، لأنَّ تحقيق تقدُّمٍ في المحادثات يُهدِّد السيطرة اليهودية على الأرض، وهذا أمرٌ أكثر أهميةً من الديمقراطية بالنسبة لإسرائيل.

لهذا السبب يُفضِّل الإسرائيليون المفاوضات على طراز أوسلو، التي ترسمهم في صورة من يُحاول التعامل بجديةٍ مع القضية الفلسطينية، دون أن تُجبرهم تلك المفاوضات على تنفيذ ذلك فعلياً.

وكرَّست القيادة الفلسطينية جهودها على الجانب الآخر لإقامة حل الدولتين، رغم أنَّ أيّ وضعيةٍ يمكن أن يفوزوا بها عبر عملية السلام القائمة ستكون أقل بكثيرٍ من الحد الأدنى لاحتياجات الفلسطينيين.

إذ لن تسمح تلك الوضعية للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى مدن وقرى أجدادهم، أو تُوفِّر للمواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل المساواة الكاملة، أو تمنح الفلسطينيين استقلالاً وسيادةً حقيقية. وكان قبول المشاركة في هذه الممارسة غير المشروعة خطأً استراتيجياً مهولاً، وهو الخطأ الذي كان مدفوعاً بالمصالح الشخصية للقيادات الفلسطينية أكثر من الاحتياجات الأساسية للقومية الفلسطينية.

وكانت منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة ياسر عرفات، تحظى بشعبيةٍ وقبولٍ لدى الفلسطينيين العاديين، لأنَّها تزعّمت النضال المُسلَّح ضد إسرائيل طوال عقود. ولكن بحلول أواخر الثمانينيات، تحوَّلت المنظمة إلى مُجرَّد نسخةٍ سطحية من نسختها السابقة. وصارت أكثر ضعفاً عام 1990، إبان عُزلتها في المنفى بتونس، بعد أن قطع رعاتها الأثرياء في الخليج التمويل عنها حين دعم عرفات احتلال صدام حسين للكويت. وفي الوقت ذاته على الأرض، اندلعت الانتفاضة الأولى ضد الاحتلال، وتصدَّرت عناوين الأنباء مُهدِّدةً بإزاحة المنظمة من مكانتها بوصفها رمزاً للمقاومة الفلسطينية. 

ومن خلال تبنِّي عملية أوسلو، وجد عرفات ورفاقه في المنظمة وسيلةً لاستعادة النفوذ والأهمية، مع حصار المُجتمع الفلسطيني في مأزقٍ أعاقه منذ ذلك الحين.

كان قرار منظمة التحرير الفلسطينية مؤسفاً للغاية؛ نظراً إلى السياق العالمي الذي اتُّخِذَ خلاله. 

إذ كان الاتحاد السوفييتي قد انهار للتو، وهو ما أشعل موجة تحوُّلٍ ديمقراطي عالمية. وكانت جنوب إفريقيا تُفكِّك نظام الفصل العنصري، مُبرهِنةً على أنَّ أيّ بلدٍ يستطيع التخلِّي عن نظام اضطهادٍ من أجل الديمقراطية اختيارياً.

ولم يكن بوسع المنظمة أن تتمنّى لحظةً أنسب للمطالبة بحقوقٍ مُتساوية داخل دولةٍ ديمقراطية. وبدلاً من ذلك، انتهزت المنظمة فرصة أن تحظى بأهميةٍ فورية، وسمحت بأن تخضع حقوق الفلسطينيين الأساسية لمفاوضاتٍ ثلاثية، سيظلّون الطرفَ الأضعفَ فيها دائماً.

حكم خيار منظمة التحرير الفلسطينية على الفلسطينيين بالمزيد من القمع تحت حُكمٍ عسكري للاحتلال الإسرائيلي، والمزيد من الشقاء داخل مُخيمات اللاجئين، إبان انتظارهم عقد صفقةٍ خيالية. 

وبعد مرور عقود، ورغم تجاوز الجميع للأمر لا يزال خلفاء عرفات في السلطة الفلسطينية متمسكين بعملية السلام وحلّ الدولتين، إذ صار من الصعب عليهم التخلِّي عن الفكرة، بعد أن أغدقوا الكثير من جهدهم ومصداقيتهم على مشروعهم لبناء الدولة.

ويجب أن يتوقَّف هذا الترتيب، إذ حان الوقت لتتخلَّى السلطة الفلسطينية عن دعايتها لحل الدولتين، وهي الفكرة التي باتت مُجرَّد ستارٍ تتخفَّى وراءه الولايات المتحدة وغيرها من القوى العُظمى إبان سماحها لإسرائيل أن تُواصل فصلها العُنصري بسياسة الأمر الواقع. 

وبدلاً من ذلك، يجب على الفلسطينيين الاعتراف بحقيقة أنَّه لن تكون هناك سوى دولة واحدة بين النهر والبحر، وأن يُركّزوا جهودهم على تحويل تلك الدولة إلى وطنٍ صالحٍ لكافة سكان تلك الأرض من اليهود والعرب على حدٍّ سواء، حسب الكاتب.

وربما يعترض البعض على أنَّ هذا التحوُّل في الاستراتيجية سيُقوِّض الإجماع الذي جرى التوصُّل إليه بشق الأنفس، والمُتجذِّر في عقودٍ من النشاط الحقوقي والقانون الدولي، حول أنَّ الفلسطينيين يستحقون إقامة دولتهم الخاصة. لكن ذلك الإجماع لم يُسفر عن الكثير للفلسطينيين.

 إذ فشلت قرارات الأمم المتحدة التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى في وقف المستوطنات الإسرائيلية، أو كسب دولةٍ للفلسطينيين، وبالتالي ليس لديهم الكثير ليخسروه. 

وفي حال تنفيذ حل دولةٍ واحدةٍ حقيقي سيكسب الفلسطينيون مساواةً كاملة أمام القانون، وحينها ستكون صفقةً رابحة بالنسبة لهم.

ولن تتبنَّى إدارة ترامب فكرة الحقوق المتساوية لجميع السكان، بمن فيهم الفلسطينيون. 

لكن الناخبين الأمريكيين ربما يفعلون ذلك

إذ وجد استطلاع آراءٍ، أجرته جامعة ماريلاند، العام الماضي، أنَّ الأمريكيين منقسمون بالتساوي تقريباً بين دعم حل الدولتين وبين دعم حل الدولة الواحدة ذات الحقوق المتساوية لجميع السكان. ولكن حين سُئلوا عما يُفضِّلونه في حال استعصى تطبيق حل الدولتين (وهذا هو واقع الأمر)، اختاروا حل الدولة الواحدة ذات الحقوق المُتساوية أكثر من الإبقاء على الوضع الراهن بنسبة اثنين إلى واحد.

واستطاعت الولايات المتحدة تأمين أكثر ما ترغب فيه داخل الشرق الأوسط -وهو التدفُّق المستمر للموارد الطبيعية- دون إقامة سلامٍ عادل. 

ولكن ذلك أتى على حساب سيادة عدم الاستقرار على الدوام، لكن إقامة دولةٍ مُشتركة بحقوقٍ مُتساويةٍ للجميع سيخدم المصالح الأمريكية بطريقةٍ أفضل، لأنَّها ستتمكَّن أخيراً من إحلال الاستقرار في المنطقة وفتح الآفاق أمام فرصٍ أوسع للنمو الاقتصادي والإصلاح السياسي.

وستستفيد إسرائيل أيضاً من التحوُّل إلى دولةٍ مماثلة، إذ ستحظى هي الأخرى بالأمن والاستقرار والنمو، مع التخلُّص من العزلة الدولية، وإنهاء الفساد الأخلاقي الذي أنتجه الاحتلال داخل المجتمع الإسرائيلي. وفي الوقت ذاته، سيحتفظ الإسرائيليون بقدرتهم على الوصول إلى المواقع الأثرية والدينية داخل الضفة الغربية، وربما يُفضِّل غالبية الإسرائيليين إدامة الوضع الراهن، لكن ذلك غير مُمكنٍ بكل بساطة. 

إذ لا تستطيع إسرائيل أن تُواصل إنكار حقوق ملايين الفلسطينيين إلى الأبد، وتوقُّع أن تظل عضواً طبيعياً في المجتمع الدولي. 

إذ سيُعترف بحقيقة أن إسرائيل هي نسخة الفصل العنصري داخل الشرق الأوسط في نهاية المطاف، وحينها ستكون خيارات إسرائيل الحقيقية واضحة: التحوُّل إلى دولةٍ واحدة بحقوق متساوية، أو أن تصير دولةً منبوذة.

ويجب أن يتَّخِذَ دُعاة الحقوق المتساوية للجميع خطواتٍ لضمان عدم تحوُّل «حل الدولة الواحدة» إلى مُجرد شعارٍ فارغ، كما حدث مع حل «الدولتين».

 ويجب عليهم التقدُّم بمشروع دولةٍ جديدة ودستورٍ جديدٍ أيضاً، من أجل تركيز وترسيخ رؤيتهم. وهذا من شأنَّه أن يُبرهِن على التزامهم بالديمقراطية، ويُسلِّط الضوء على افتقار إسرائيل لذلك الالتزام. فحين تأسَّست الدولة عام 1948، كان القادة الصهاينة يُحاولون التعجيل بوصول المزيد من اليهود، والحيلولة دون عودة الفلسطينيين، والسيطرة على أكبر مساحةٍ ممكنة من الأراضي. ولم يكونوا مُهتمين بتحديد معايير المواطنة أو الحقوق أو القيود المفروضة على سلطة الدولة، لذا وضعت الدولة اليهودية سلسلةً من «القوانين الأساسية» بطريقةٍ مُخصَّصة، بدلاً من كتابة دستور، واكتسبت تلك القوانين ثقلاً دستورياً بمرور الوقت.

ويجب على الفلسطينيين والإسرائيليين العمل معاً على صياغة دستورٍ يكفل حقوق الجميع، بدلاً من هذا الترقيع القانوني الذي يُستخدم لحماية حقوق البعض وحرمان الآخرين من حقوقهم، حسب كاتب المقال.

ومن شأن الدستور الجديد أن يعترف بأنَّ البلاد ستصير وطناً للشعبين، وأنَّ لكليهما حقاً تاريخياً في تلك الأرض، بغض النظر عن الروايات والأصوات القومية التي تزعم العكس على الجانبين.

وسيُقِرُّ كذلك بتاريخ اضطهاد الشعب اليهودي، والأهمية القصوى لضمان تمتُّع كافة المواطنين بحقهم في الأمن والأمان، بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو أصلهم القومي.

 وسيعترف ذلك الدستور أيضاً بالأخطاء المرتكبة في حق اللاجئين الفلسطينيين، ويبدأ بذلك عملية إعادتهم إلى أراضيهم وتعويضهم.

ويُمكن أن يمنح الدستور الجديد حق المواطنة لكافة الناس الذين يعيشون الآن على الأراضي الواقعة بين النهر والبحر، إلى جانب اللاجئين الفلسطينيين، علاوةً على فتح طريقٍ أمام المُهاجرين من كل مكان ليصيروا مواطنين.

 وسيتمتَّع كافة المواطنين بكامل الحقوق المدنية والسياسية، ويشمل ذلك حرية التنقل وممارسة الأديان والتعبير وتكوين الجمعيات. وسيقفون جميعاً على قدم المساواة أمام القانون، إذ سيُحظر على الدولة التمييز بينهم على أساس العرق أو الدين.

ومن أجل أن تسير أمور تلك الدولة بشكلٍ صحيح يجب أن تكون تلك المبادئ الدستورية بمثابة مبادئ تأسيسية، وأن تخضع لقيودٍ عاليةٍ على التعديل، مثل اشتراط حصول التعديلات على موافقة 90% على الأقل من السلطة التشريعية. وهذا من شأنه أن يضمن عدم تعديل الحقوق الأساسية عن طريق أغلبيةٍ بسيطة، وأن يمنع أيّ مجموعةٍ بعينها من استغلال أفضليتها الديموغرافية لتغيير طبيعة الدولة.

وسيتطلَّب التحوُّل إلى نظامٍ جديد بحقوقٍ متساوية نوعاً من الثقة، التي يستحيل بناؤها مادامت لم تتحقَّق العدالة لضحايا القمع والعنف وإراقة الدماء على مدار العقود الماضية. لذا ستكون الدولة الجديدة بحاجةٍ إلى عملية حقيقةٍ ومُصالحة تُركِّز على العدالة التصالحية، ويُمكن أن تستمد تلك الدولة الإلهام من تجارب جنوب إفريقيا ورواندا.

وربما اعتبر البعض تلك الرؤية ساذجة وغير عملية، وأنا أود أن أسألهم: هل هي أكثر سذاجة وغير عملية من مُحاولة إعادة «البيض المقلي» الذي خلقه الاحتلال الإسرائيلي إلى صيغته الأولى؟

 وكم من عقودٍ يجب أن نتحمَّلها قبل أن نقنتنع بأنَّ طريق التقسيم مسدود؟ وكم شخصاً آخر علينا أن نُندِّد بالقمع والعنف والموت الذي تعرَّض له؟

وفكرة الحقوق المتساوية للفلسطينيين والإسرائيليين داخل دولةٍ مُشتركة هي فكرةٌ موجودةٌ منذ عقود، أي نفس الوقت الذي ظهرت خلاله جهود تقسيم الأرض تقريباً، لكنَّها كانت تلقى تجاهلاً دائماً من أجل استيعاب مطالب الصهيونية، حتى لو أتت على حساب السلام. لقد فقدنا أرواحاً لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وحُرِمَت أجيالٌ كاملة من حقوقها، وذلك إبان تراجع واقعية فكرة التقسيم أكثر فأكثر. 

ولا يستطيع أيٌّ من الطرفين تحمُّل الاستمرار على هذا النسق. لقد حانت لحظة تبنِّي السبيل الوحيد للمضي قُدُماً: الحقوق المتساوية للجميع.

يوسف منير، هو كاتب وباحث يعمل كمدير تنفيذي للحملة الأمريكية لحقوق الفلسطينيين

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى