تقارير وملفات إضافية

عدو روسيا الأكبر.. الحلم الذي يصر بوتين على تنفيذه يهددها بالانهيار

حلم بوتين بإعادة الإمبراطورية الروسية يبدو للبعض أمراً منطقياً، أو قدراً جغرافياً أو تاريخياً لهذه البلاد.

ولكن هذا ليس صحيحاً بالضرورة.

بالنسبة لمراقب في عام 2019، قد يبدو أن روسيا لطالما كان لديها، وسيظل دائماً، اهتمام ثابت بالإبقاء على حكم سلطوي في الداخل وسيطرة إمبريالية في الخارج. ووفقاً لطريقة التفكير تلك، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو بالكاد الأخير في سلسلة طويلة من الحكام الروس الذين يسعون بنشاط لتحقيق الأولويات الطبيعية لبلده، والآثار المترتبة على ذلك بالنسبة للغرب واضحة. 

فبوتين يعتمد ببساطة على مخزون التكتيكات المعتادة المعاكسة لتلك الخاصة بخصومه، مثله مثل أي رئيس روسي آخر، فردوده الجاهزة إما أن تستوعب سلطويته وميوله التوسعية أو الحرب، ولا أحد يرغب في الحرب. 

لكن ماذا إن كان بوتين لا يسعى لتحقيق المصالح الوطنية الروسية الثابتة، التي يمكن تحديدها بموضوعية.

قد يكون الوضع أنه أسير للضعوط نفسها، مثله مثل كل القادة الآخرين: التصورات، والأيديولوجيات، والمواريث المؤسسية، والتطورات التاريخية التي تؤدي إلى سياسات ليست بالضرورة تصبّ في المصلحة الأفضل لبلده، بحسب ما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.

مثلما يعرف أي شخص يكنّ التقدير لروسيا، أو مثلما يسرد التاريخ، لا يمكن لدولة أن تكون لديها المصالح ذاتها على مدار تاريخها، لأن الدول ومحيطاتها تتغير باستمرار. 

فروسيا الحالية ليست موسكوفي التي كانت موجودة قبل 600 عام. والمغول ليسوا الغرب الموجود الآن. 

وبغضّ النظر عن بعض التشابهات السطحية، فبوتين ليس إيفان الرهيب (أمير موسكو في عام 1533). 

والثبات ما هو إلا خيال. في الوقت نفسه فالجغرافيا والاستراتيجية هما أمران مهمان، ونتيجة لذلك تضحي السياسة الخارجية نتاجاً للمصالح الجيوسياسية والوطنية وللأيديولوجيات، لكنها أيضاً تصبح نتاجاً لنوع النظام الحاكم، وشخصية الزعيم، والفترة الآنية من التاريخ، والسياق، وعوامل أخرى كثيرة.  

يتطلب فهم السياسة الخارجية الروسية دراسة تطور البلد على مدار التاريخ. وقبل كل شيء، يعني ذلك النظر لروسيا المعاصرة باعتبارها وريثة الإمبراطورية السوفيتية -أي أنها دولة شديدة المركزية حيث تحدد نواة الدولة الروسية السياسات الداخلية والخارجية للجمهوريات غير الروسية- وأنها نتاج الانهيار المفاجئ لتلك الإمبراطورية.

يمتلئ سجل التاريخ بالأدلة على تغيُّر المصالح القومية الروسية. بالعودة إلى القرن الثالث عشر، ظهرت الدولة الموسكوفية -مثلما أطلقت على نفسها- سالفة روسيا الحالية، في صورة إمارة صغيرة تنافس على السلطة مع إمارات صغيرة أخرى مساوية لها في جوارها المباشر. 

كانت الإمارات كلها تكافح لإطاحة ما كان يعرف باسم «النير المغولي». في عام 1380، هزم دميتري دونسكوي المغول في كوليكوفو، وفي 1480 أنهى إيفان الثالث سيطرة التتار على موسكو عند معركة نهر أوغرا، وبعدها بسبعين عاماً استولى المسكوفيون على قازان وأستراخان. 

في ذلك الوقت، لم تكن تلك المصالح الروسية التي يعتقد أنها ثابتة، مثل الهيمنة على أوكرانيا أو مضيق البوسفور، تهم أحداً في موسكو، لأن موسكوفي كانت بعيدة للغاية وشديدة الصغر، وكان التركيز منصباً على التهديد المغولي القادم من الشرق. 

كان توسع موسكوفي التالي في سيبيريا واستعمارها، وهي عملية استمرت 70 عاماً بين عامي 1581 إلى 1649، مدفوعاً إلى حدٍّ كبير بالمستكشفين الروس الذين خرجوا كي يجنوا الأموال سريعاً (وتبِعهم القوزاق ووحدات الجيش)، وليس لاعتبارات جيوسياسية تتعلق بالمصالح الوطنية. حتى مع حلول القرن السادس عشر، لم تكن أوكرانيا والدولة العثمانية على رادار موسكوفي بعد، بينما كانت ليتوانيا، وبولندا والسويد التي كانت جميعها في غمار حرب مع بعضها البعض ومع موسكوفي، على الرادار بالفعل. 

ومع حلول النصف الثاني من القرن السابع عشر، ونتيجة للقتال المتواصل بين البولنديين والموسكوفيين والأتراك العثمانيين وتتار القرم والقوزاق الأوكرانيين، ضمت موسكوفي الأراضي الواقعة في شرق أوكرانيا واقتربت من البحر الأسود، وبذلك حولَّت أوكرانيا والدولة العثمانية إلى منطقة ذات أهمية استراتيجية بالنسبة لها. 

غيَّر بيتر العظيم بمفرده مفهوم المصالح الوطنية لموسكوفي، عندما قرر بعد زيادة مطولة إلى أوروبا الغربية، أن موسكوفي احتاجت آنذلك للتحديث. واستجاب لنصيحة رجال الدين الأوكرانيين بأن إمبراطوريته، المسماة الآن روسيا، يجب أن تدعي نسبها إلى دولة روس كييف التي كانت موجودة في العصور الوسطى، والتي يوجد مركزها في أوكرانيا في وقتنا هذا

لم يتقرر أي من تلك التحركات الأيديولوجية بالمصالح الوطنية الثابتة. كان بإمكان بيتر ألا يسافر ببساطة إلى أوروبا.

ورجال الدين الأوكرانيون كان بإمكانهم أيضاً ألا يقنعوه بأن شرعية إمبراطوريته قد تتعزز بإساءة تفسير التاريخ، وادعاء أن روس كانت سالفة روسيا.

بمجرد بدء التواصل بين الإمبراطورية الروسية والعثمانيين وحلفائهم تتار القرم، كانت التوترات بين القوتين العظميين حتمية. لكن توسع روسيا بلا هوادة في البحر الأسود بعد حكم بيتر كان نتاج ضعف الدولة العثمانية المتزايد والتصور الروسي بأن الأتراك هم أعداء للمسيحية بقدر ما كان نتاج أولوية جيوسياسية موروثة للسيطرة على مضيق البوسفور(ونتيجة تصور أسطوري بأن روسيا وريثة الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية). 

حفر أيضاً كل من الضعف والتقهقر والشعور بمهمة التثقيف التوسع الروسي في آسيا الوسطى والقوقاز في القرن التاسع عشر، لينتج عن ذلك في نهاية المطاف الإمبراطورية التي انهارت في الفترة بين 1918 و1921.

نهاية الإمبراطوريات تكون بطريقتين. ينحل كثير منها ويفقد الأراضي بمرور الوقت، وتكون النتيجة هي ظهور مراكز إمبريالية من الحطام لديها الحد الأدنى من الروابط الإيديولوجية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية مع مستعمراتها السابقة. ونتيجة لذلك، نادراً ما تشن المراكز -التي تحولت إلى دول مستقلة- حملات لاستعادة الأراضي المفقودة، لسبب بسيط هو أنها فقدت تلك الأراضي قبل وقت طويل من انتهاء الإمبراطورية كلياً. 

والعثمانيون هم مثال جيد لهذا الأمر. فقد بدأت خسائرهم مع فشل حصار فيينا في عام 1683 وشارفت على الانتهاء مع بداية الحرب العالمية الأولى. ظهرت تركيا في 1919 مركزاً إمبريالياً، ولم يكن شاغلها الأول استعادة أراضي الإمبراطورية التي فُقدَّت قبل نحو 300 عام، بل كان تأكيد استقلالها والتعامل مع الأقليات اليونانية والأرمانية داخل حدودها.   

انهارت الإمبراطورية السوفيتية في السنوات المحصورة بين حقبة البيريسترويكا التي أشرف عليها ميخائيل غورباتشوف والتفكك الرسمي للاتحاد السوفيتي في 31 ديسمبر/كانون الأول عام 1991. وبين عشية وضحاها تقريباً، ظهرت 14 دولة مستقلة غير روسية، لكن العديد من الروابط الإمبريالية السابقة التي ربطتها بالمركز- روسيا- ما تزال قائمة.

وكان معظم الروس يرون أن دولتهم وأمتهم متفوقة ويقع على عاتقها مهمة نشر الحضارة بين غير الروس. واستمرت هيمنة اللغة والثقافة الروسية، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى سياسة «الترويس» التي اتبعها الاتحاد السوفيتي لعقود. 

واستمرت البنية التحتية للمجال الاقتصادي الموحد التي تشمل خطوط أنابيب النفط والغاز، وغيرها كثير مما يضمن استمرار الاعتماد على روسيا. وفي الوقت نفسه، ورثت روسيا ترسانة كبيرة من الأسلحة والجيش، في حين كان على الدول غير الروسية أن تسعى جاهدة لإعادة تجميع بقايا الجيش السوفيتي التي ورثتها لتشكل ما يشبه الجيوش المستقلة. وكانت النخب غير الروسية مرتبطة بمثيلاتها الروسية، ولم يكن ولائهما يتركز بالضرورة على دولتيهما. وأخيراً، شعر الروس عموماً ونخبهم خصوصاً بالإهانة بسبب خسارتهم الإمبراطورية وكانوا مصممين على إحياء مجد بلادهم مجدداً.

لا عجب إذاً أن بوتين وسلفه بوريس يلتسن سعيا إلى إعادة الإمبريالية. ففي عهد يلتسن، كانت إعادة الإمبريالية «ناعمة»، فكانت تركز على محاولات الترويج لإقامة كومنولث للدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي والدفاع عن الروس المضطهدين والأقليات الناطقة بالروسية في الدول غير الروسية. لكن يلتسن كان أيضاً أحد المسؤولين عن الانهيار الاقتصادي لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي؛ إذ أن الجريمة والفساد ازدهرا في عهده. وكان من حسن حظ بوتين أنه كان في المكان المناسب في الوقت المناسب. فعندما أصبح رئيساً للوزراء ورئيساً، كان الاقتصاد الروسي ينتعش أخيراً، وكانت أسعار الطاقة على وشك أن تبلغ الذروة. ومكّنه ذلك من أن يصبح مستبداً.

في ضوء ذلك، يتضح أن ضم بوتين لشبه جزيرة القرم والحرب في شرق أوكرانيا لا علاقة لهما كثيراً بالمصالح الروسية الثابتة. وإنما أراد بوتين إحياء مجد روسيا مجدداً وكان  مرتاباً بشأن حلف الناتو والغرب. 

بل ورأى أن الثورة الأوكرانية التي اندلعت عام 2014 أضعفت الدولة الأوكرانية، وجعلتها هدفاً سهلاً للتوسع، وشكلت تهديداً لحكمه الديكتاتوري بإشارتها إلى أن الديمقراطية وسلطة الشعب يمكن أن يكون لهما نتائج إيجابية. 

فقد اجتمعت الإيديولوجية الإمبريالية وضعف أوكرانيا مع شعورها بالخطر ليجعلوا من الغزو احتمالاً قوياً إن لم يكن حتمياً.

وإذا كان الهدف الاستراتيجي للغرب -وهو هدف متوافق تماماً مع روسيا ديمقراطية غير توسعية- هو إنشاء مجموعة مستقرة من الدول غير الروسية المزدهرة القادرة على مقاومة الهيمنة الروسية وعلى استعداد للدخول مع موسكو في علاقات ودية ومفيدة للطرفين، فما هي الطريقة المثلى إذاً التي ينبغي أن يتعامل بها الغرب وجيران روسيا مع طموحات بوتين الإمبريالية؟

أولاً، لا ينبغي لهم تغذية جنون العظمة الإمبريالي الروسي بالقول إن مصالحها الوطنية تستلزم بالضرورة الهيمنة على جيرانها، وبالتالي إضفاء الشرعية على مشروعها الإمبريالي. إذ لا توجد مصالح وطنية روسية ثابتة، وجميع الدول الإمبريالية السابقة تفقد الحافز الإيديولوجي في النهاية. وسيحدث الشيء نفسه  مع روسيا، ما لم يمنع صناع السياسة الغربيون المُضَّللون ذلك.

ثانياً، يجب عليهم تفادي تقوية الروابط الاقتصادية والسياسية والعسكرية بين روسيا ومستعمراتها السابقة. ولا يلزم قطع هذه الروابط بالكامل- ففي النهاية، من المنطقي تماماً أن تربط بين الجيران علاقات اقتصادية وثيقة- لكن لا ينبغي أن تستند إلى الهيمنة الروسية. يمكن للغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً المساعدة في موازنة العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية بين روسيا وجيرانها عبر تشجيع الاندماج غير الروسي بشكل أوثق في المؤسسات الأمنية والاقتصادية الأوروبية، وتوفير مساعدة عسكرية دفاعية محددة من شأنها تعزيز قدرة الدول الصغيرة على مقاومة العدوان، وقبل كل شيء، تشجيع تنويع الطاقة، ومساعدة غير الروس في الجمهوريات السوفيتية السابقة في تطوير موارد الطاقة الخاصة بهم، والامتناع عن دعم احتكار الروس للطاقة. وعلى أقل تقدير، لا ينبغي للغرب أبداً أن يسعى لإقامة خط أنابيب مثل خط Nord Stream 2 مجدداً أو أن يتملق بوتين على طريقة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

ولسوء الحظ، يجب على الغرب أيضاً أن يعد نفسه لأسوأ سيناريو قد يحدث لروسيا: تفكك الدولة الروسية وربما انهيارها.

في عام 1918، (بعد الانهيار المؤقت للإمبراطورية القيصرية ) تفوقت روسيا في مرحلة ما بعد الإمبريالية السوفيتية بسهولة على الدول غير الروسية المستقلة حديثاً. وعادت الإمبريالية بسرعة وسهولة نسبياً. 

واليوم، رغم أن روسيا لا تزال قوة إقليمية عظمى، فإنها تفتقر إلى القوة الصارمة اللازمة لإعادة تأسيس إمبراطورية حقيقية. إذ يمكنها السيطرة على أجزاء ضئيلة من البلدان أو الدول الصغيرة، مثل إستونيا ولاتفيا، ولكن من المستحيل أن تتمكن روسيا من غزو كازاخستان أو أوزبكستان أو أوكرانيا مجدداً. 

ولا يبدو واضحاً أيضاً أن روسيا يمكنها غزو روسيا البيضاء. ولسوء الحظ، يمكن لمحاولة إعادة إقامة إمبراطورية أن تزعزع استقرار بعض جيران روسيا وروسيا نفسها.

لدى بوتين طموحات جيوسياسية عظيمة- تمتد حتى إفريقيا والشرق الأوسط- فيما يتأخر اقتصاده كثيراً. ولا يمكن أن يدوم هذا التوسع الإمبريالي طويلاً. 

ففي مرحلة ما في المستقبل غير البعيد، سوف تصبح التزاماته المتعلقة بالسياسة الخارجية شبيهة بالتزامات ليونيد بريجنيف في حقبة الاتحاد السوفيتي، وستصبح بعض أشكال الانسحاب المنظم أو غير المنظم ضرورية.

وما لا يقل أهمية عن ذلك أن بوتين شيد دولة شبه فاشية مغرقة في المركزية وفاسدة وغير قادرة على التحديث، ولا تجيد سوى القمع. ونظراً لأنه ركيزة تلك الدولة، فإن رحيله سيكشف نقاط ضعفها الداخلية وسيجعلها مُهيأة للاعتداء، سواء على يد النخب الطموحة أو الجماهير الساخطة. ومن المفارقات أن بوتين أصبح أسوأ عدو لروسيا، تحديداً لأنه مصمم على تحويل روسيا إلى إمبراطورية استبدادية، وهو دور لا تستطيع تحمله.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى